Internet Does Not Forget: The Right to be Forgotten Online إنترنت لا ينسى: الحق في أن تُنسى على الإ
لم يدرك الشاعر الراحل محمود درويش أن مقولته "تُنسى كأنك لم تكن شخصاً ولا نصاً وتُنسى"، سوف تتناقض لاحقا مع واقع الإنترنت. فلقد أبطل الإنترنت كثير من السرديات الشائعة، والمقولات الراسخة في الوعي الجمعي، نتيجة التحولات الاجتماعية، والسيكولوجية، والثقافية، الموازية لحركيَّته، والتابعة لفعله. ولعل مقولة "النسيان نِعمة"، والتي يحتفي بها موروثنا الثقافي، لم تعد، هي الأخرى، مطابقة لواقعنا الرقمي، في الوقت الحالي، كمطابقتها لواقعينا الشفاهي والورقي، في الماضي. وكما يقولون: "الإنترنت لا يَنسى"، فما يودع في ذاكرته الرقمية يتأبَّد، أي يبقى إلى ما لا نهاية، لاسيما مع الانخفاض الكبير في تكلفة حفظ وصيانة البيانات الرقمية.
إن خطورة هذه المسألة تتمثل في أن الإنترنت باتت توثق كل ما يتعلق بنا، ويمس وجودنا: الأماكن التي نرتادها، الأطعمة المفضلة لدينا، توجهاتنا الإيديولوجية، علاقاتنا الاجتماعية، تاريخنا المهني، أرقام هواتفنا، بيانات بطاقاتنا الائتمانية ... إلخ. وإن بعض تلك المعلومات الشخصية على الإنترنت عبارة عن مشاع، وبعضها الآخر يتمتع بخصوصية معينة لا تحول دون انتهاكها رقميا. وهنا تصبح خصوصية الأفراد في خطر. لعلنا نذكر جرائم القرصنة الرقمية، والتي وقعت، مؤخراً، بحق بعض نجمات هوليوود، وانتهت بتسريب صورهن الخاصة إلى الإنترنت، وما وقع عليهن من ضرر سيستمر أثره باستمرار وجود السبب، أي وجود تلك الصور بشكل غير شرعي عبر الويب. ولأن "الإنترنت لا ينسى"، فلا تزال "مونيكا لوينسكي" تحتل مرتبة متقدمة في البحث في الإنترنت، رغم مرور كل هذه السنوات على فضيحة الرئيس الأمريكي كلينتون في البيت الأبيض، والمعروفة بـ "فضيحة لوينسكي".
أما عن حال المعلومات الشخصية فيما قبل الإنترنت، فعادة ما كانت تتخذ طريقتين أساسيين، حال انتقالها في محيط الثقافة المحلية، ومرورها منه إلى المستقبل، فإما أن تنتقل بواسطة المشافهة، وإما بواسطة التوثيق. أما المعلومات الشفهية، فعادة ما تتساقط قطعة بعد أخرى من وعاء الذاكرة الإنسانية، والتي هي محدودة في الزمان والمكان وقدرات الحفظ والاسترجاع، بل ربما تنمحي مطلقا بمرور الزمن. وأما التوثيق، فأعني به التوثيق ما قبل الرقمي، أي المعلومات الموجودة في شكل إما ورقي أو أنالوجي (كأن تكون عبارة عن مادة سمعية أو بصرية أو فيديوية). والمعلومات الموثقة ورقياً أو أنالوجياً فقد تُفقد بمرور الزمن، أو تتقادم بتقادم وسائطها التكنولوجية، أو يتم إهلاكها لتوفير مساحات الحفظ وتكلفة الصيانة، كما أنها محدودة التداول والاسترجاع نتيجة معوقات إتاحتها وصعوبات بحث محتواها. إذا، ثمة فروقات شاسعة بين ما كان وما هو واقع معاش الآن، فيما يتصل بالمعلومات الشخصية عني وعنك، بل عن سبعة مليارات إنسان يعيشون على هذا الكوكب.
وإزاء هكذا واقع رقمي جديد، ظهر مؤخرا ما بات يعرف بـ "الحق في أن تُنسى" Right to be Forgotten، والذي يعني، ببساطة، حق الأفراد في مطالبة جوجل، أو غيرها من محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي، بإزالة اللينكات links التي تدل عليهم من نتائج البحث، وذلك في حال كانت تُحيل إلى معلومات شخصية مغلوطة، أو فاضحة، أو محرجة، أو تتصل باتهامات سابقة أُسقطت عنهم. وبعبارة مختصرة، في حال كانت تحيل إلى معلومات قد لا يرغب أصحابها في ديمومة ارتباطها بهم، نتيجة إضرار بسمعتهم. وهنا، ثمة حقيقة هامة تتمثل في أن المعلومات الشخصية ذاتها لا تحذف مطلقا من الإنترنت، حيث تظل متاحة عبر مواقع الويب التي تستضيفها، بينما يصبح من الصعب الوصول إليها بعد إزالة لينكاتها من محرّكات البحث.
إذا، يتقدم الأشخاص رسميا إلى جوجل في حال كانوا يرغبون في حذف لينكات ذات صلة بمعلومات شخصية غير مرغوبة. ومن ثم تقوم جوجل بفحص طلباتهم، واتخاذ القرار بشأنها. أما حجب مواقع الويب التي تستضيف تلك المعلومات، فهي مسألة أخرى تحكمها مشروطية الوصول الحر إلى المعرفة، والتي هي جوهر الاتصال الإنساني عبر الإنترنت.
وجذور مبدأ "الحق في أن تُنسى" تعود إلى إعلان نشر في إحدى الصحف الأسبانية في العام 1998 بشأن بيع منزل لسداد ديون مستحقة. والظاهر أن هذا المنزل وتلك الديون يخصان محاميا أسبانيا يدعى "ماريو جونزاليس". غير أن السيد "جونزاليس" تنبه في العام 2009، إلى استمرارية عثوره على معلومات على الإنترنت بشأن تلك الأزمة المالية، وذلك في كل مرة يبحث تحت اسمه في جوجل، مما يضر بسمعته. من ثم، قام برفع دعوى تلزم الصحيفة، وكذا جوجل، بإسقاط تلك المعلومات من الإنترنت. وقد تم، لاحقا، تصعيد القضية إلى محكمة الاتحاد الأوروبي، في العام الماضي، حيث لم يتم قبول شق الدعوى المتعلق بالصحيفة، بينما ألزمت جوجل بتنفيذ مبدأ "الحق في أن تُنسى".
لعل مبدأ "الحق في أن تُنسى" يفتح الباب لنفاذ عديد التساؤلات: فهل سيتحول إلى حق عالمي يستقر ضمن بنود حقوق الإنسان في المستقبل؟. هل سيصبح في مقدور الطغاة والفاسدين والقتلة والإرهابيين محو كل دليل على الإنترنت يتصل بأعمالهم المشينة حال نفاذ القصاص فيهم؟. هل سيسهل ذلك من ممارسات اللعب في نسيج التاريخ بحيث يمكن الإبقاء رقميا على ما نرغب وإزاحة ما لا نرغب فيه؟. وهل نحن بصدد سلطة رقابية جديدة يمارسها الأفراد العاديون على محتوى الويب؟.
إن هذه المسألة متشابكة، جدليّة، وغير محسومة تماما. وإننا بصدد منطقة لا تزال تعج ببعض الزوايا المعتمة التي لم تستكشف كليّة بعد. إن الأمر يماثل تطبيق عقار طبي جديد، حيث قد نتبين لاحقا، وبعد فوات الأوان، أننا أخطأنا خطأً جسيما يصعب تداركه. وربما نكون مصيبين تماما. الأمر لا يزال بحاجة إلى كثير من التعقل، والبحث، قبل فوات الأوان.