top of page

Future of Existence on a Homobotic Planet مستقبل الحياة على الكوكب الإنسبوتي


بينما أتقدم لأتخذ موقعاً تالياً على رأس أحد صفوف الانتظار أمام بوابات السفر الإلكترونية بمطار طوكيو، سمعت ضجيجاً يأتي من نهاية قاعة المسافرين، فالتفت إلى مصدر الضجيج. فإذا بروبوت من النوع "آسيمو Asimo" يحمل في يده حقيبة سفر صغيرة، ويتقدم مسرعاً بين المشاة، مفرقاً جموعهم، تارة، ومُلقِياً ببعضهم على الأرض، تارة أخرى. فجأة، استقر أمامي، مقتنصاً، بغير حق، دوري في صفوف المسافرين. ولهذا، استدعيت شرطة الروبوتات، متقدماً بشكوى ضد ذلك الروبوت سيء السلوك. فعطلت الشرطة سفره لبضعة ساعات، تمت خلالها مراجعة برمجياته الأخلاقية، وتعديل أكواده السلوكية. ثم عوقب بتجريده من نقاط التميز السنوية، وإبطال البرمجيات التي تكسبه الشعور بالمتعة لمدة سبعة أيامٍ روبوتية.


بالتأكيد هذه الحكاية مُتخيَّلة، وغير حقيقية، لكنها قد تحدث في مستقبل الحياة الإنسبوتية (نحتُّ المفردة الأخيرة للدلالة على الصفة المزدوجة الإنساني ـ الروبوتي، كما ورد في المقال السابق). وما يجعل حدوثها ممكنا هو ازدياد استقلالية الروبوتات يوما بعد آخر. على كلٍ، فإن "استقلالية" الروبوتات تعني تطور ذكائها الاصطناعي ذاتياً، وتحسُّن قدرتها على التعلم والتوقع الذاتيين، وعقلنة المواقف، واتخاذ قرارات دقيقة، وإنتاج ردود أفعال آنية، والتي تتفاوت بتفاوت المواقف، والظروف المتداخلة معها. وبهذا لا يحتاج الروبوت إلى دعم مباشر من الإنسان، أو إلى تدخل مستمر من الخارج، من أجل تلقيمه أكواده البرمجية، أو تلقينه أفعاله المختلفة. أي لا يحتاج إلى برمجة مسبقة تحدد كيفية التصرف حسب مجموعة من المواقف المتوقعة. إذاً، لنترك المواقف تحدث، والروبوتات تتصرف تلقائياً، حسبما يملي عليها ذكائها الاصطناعي. وبهذا، لن تعود تلك المخلوقات السيليكونية تتصرف وفقاً لمشيئة الإنسان، ورغبته السابقة، بل وفقاً لرغبتها الذاتية المتفاوتة بتفاوت الظروف المحيطة.


جدير بالذكر، أن برمجة الروبوت للقيام بمهمة بسيطة، وغير معقدة، مسألة تنطوي على كثير من الصعوبات، والوقت، والجهد، والمال، مما يُبذل في كتابة عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف، من أكواد البرمجة، والتي هي لغة التواصل مع الروبوت. أما المسألة الأكثر تعقيدا فهي تدريب الروبوت على محاكاة أنماط بشرية دقيقة، مثل محاكاة الحواس البشرية (كالسمع، والإبصار)، وإدراك الكلام، ومحاكاة تعبيرات الوجه (كالخوف، والسعادة، والغضب). والمهم هنا، لن يستمر الإنسان في إملاء شروطه على الروبوتات بعد أن يتطور ذكاؤها، وتحيا حياة مستقلة بين أندادها البشريين.


فمما هو حقيقة قطعيّة بما لا يحتاج دليل، أن أحداً لا يستطيع إيقاف مسيرة التطور التكنولوجي، ولا وضع حدود تُعطِّل تقدم العلم صوب المستقبل. ولهذا يعتقد "ستيفن هوكينج" Stephen Hawking، عالم الفيزياء الشهير، أن "التطور الكامل للذكاء الاصطناعي يعني نهاية الجنس البشري". كما أنه " سوف تستقل آلات الذكاء الاصطناعي، وتعيد منفردةً تطوير نفسها بمعدلات مضطردة تزداد بطريقة لانهائية". ولهذا، والكلام موصول لـ "هوكينج"، فإن "الكائنات البشرية، والتي يعتبر تطورها البيولوجي تطوراً بطيئاً، لن تستطيع المنافسة، ومن ثم ينتهي وجودها". إذاً، ما يعتقده "ستيفن هوكينج" مخيف، أليس كذلك؟. والحق إنه ليس مخيف إلى هذا الحد لو وضعناه في سياقي المستقبل التكنولوجي والحضاري.


إن الروبوتات تبدو مذهلة في قدرتها، الحالية والمستقبلية، على إحداث تغيير في الطريقة التي نحيا بها، ونرى وجودنا من خلالها. سوف يشهد المستقبل مظاهر لانهائية للتغيير المنبثق عن تعايش الجماعتين الإنسانية والروبوتية. فلربما تتكاثر الروبوتات ذاتياً، أو تتزاوج مع البشر، أو ترتاد الروبوتات محلات التجميل والأناقة، أو تحتاج طبيب أمراض روبوتية، أو معالج نفسي ليقنعها أنها ليست بشرية (يذكرني هذا الأخير بفيلم آي روبوت). وقد نضطر في المستقبل إلى استحداث مؤسسات شُرَطية خاصة لمواجهة تجاوزات الروبوتات، وهيئات قضائية للبتّ في الاتهامات الموجهة إليها، ومؤسسات عقابية لتنفيذ الأحكام الصادرة في حقها. والأهم، أننا سوف نحتاج إلى معايير أخلاقية تناسب العالم الإنسبوتي الجديد، وكذلك قوانين تنظم العلاقة بين البشر والروبوتات، من جانب، والروبوتات وبعضها البعض، من جانب آخر. وباب التخييل مفتوح على مصراعيه، لاستشراف سيناريوهات تعكس تغيرات الحياة "الإنسبوتية" في المستقبل.


إن هكذا تغيرات دراماتيكية تبدو خارقة، غرائبية، شاذة، وصادمة لوعي الإنسان المعاصر، أو بالأحرى صادمة للوعي الإنساني المطابق لسياق اللحظتين الاجتماعية، والحضارية، في الوقت الراهن. لكن هكذا سيناريوهات متوقعة، ستصبح في المستقبل من قبيل المألوف، والمعهود، والمقبول، نتيجة تعاقب الأجيال، وتدرُّج التغيير، مما يخفف من وقع الصدمة على وعي إنسان المستقبل.


إن وتيرة التحول السريع في تكنولوجيا الروبوت، تؤكد على حتمية نشأة أنماط عيش اجتماعي مشترك مع الجماعة الروبوتية، في المستقبل، تتجاوز كافة أنماط الاجتماع الإنساني عبر التاريخ. وإن التحول من نمط حياة لآخر ينطوي على صدمات سيكولوجية، واهتزازات سوسيولوجية، قد تكون عميقة في بعض حالاتها، وتجلياتها. ولهذا، فالحاجة ماسة إلى البدء في إيجاد صيغ توافقية للتعايش بين الجماعتين البشرية والروبوتية. كما أن الحاجة ماسة إلى تأهيل المجتمع المعاصر، لاستقبال التغيرات المصاحبة، والتي سوف تنسحب موجات تأثيرها على كافة البنيات، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعسكرية. ولو ظل مجتمعنا العربي على هذه الحالة من التردد الحضاري، والتشوُّش الهوياتي، فسوف يتحول إنسانه إلى قشة في مهب رياح التغيير "الإنسبوتي" في المستقبل.


والحال، إن عمليات التكيف مع متغيرات المستقبل، لابد وأن تجري بالتزامن مع إطلاق مشروعات جادة لتطوير تكنولوجيات محلية روبوتية، تمتلك مقومات التنافسية العالمية. ولعله من المهم التأكيد، ثانيةً، على أن معدلات التطور في تكنولوجيا الروبوت، والذكاء الاصطناعي، سريعة للغاية، خصوصاً إذا ما قورنت بمعدلات تطور تكنولوجيا العصر الصناعي، والتي باتت، فعلياً، جزء من الماضي. الأمر الذي يضاعف من حجم التحدي، ويعقد من طبيعة المسئولية المحلية في مواجهة المستقبل.


بالأخير، سوف يأتي زمان نتوقف فيه عن تشبيه أفعالنا البشرية المستهجنة بالروبوتية، بقولنا "إنهم يتصرفون بطريقة آلية مثل الروبوتات". فعند هكذا لحظة مستقبلية، لن تكون الروبوتات "آلية"، إنما "إنسبوتية" يمتزج في تكوينها الداخلي ما هو إنساني وما هو روبوتي، بل ستكون أعلى ذكاءاً، وأرقى عاطفةً، وأعظم تنافسيةً، من أي وقت مضى. علينا أن نشرع في التقرب إلى عالم الروبوتات، وفي نسج حياة اجتماعية جديدة حوله. من يدري، لربما صرنا نحن الآخرين، في عالم المستقبل، مخلوقات "إنسبوتية".



أحدث المقالات المنشورة
المقالات المنشورة
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page