The Fifth Dimension of Warfare (2-3): From Pharaohs Chariots to Invading the Internet المجال الخامس
إن الجداريات المصرية القديمة التي تجسد الفراعنة العظماء يقودون عجلاتهم الحربية وسط صخب المعارك، تبعث على التأمل التاريخي لحروب الماضي. وإن تماثيل الجنود المعاصرين المثبَّتة في ميادين كثيرة حول العالم، تبعث أيضاً على تساؤلات حول الحروب المعاصرة. لكن، كما أن النموذج العسكري الذي تعكسه جداريات العجلة الحربية بات في ذمة التاريخ، فإن النموذج الذي تجسده التماثيل العسكرية المعاصرة أوشك أن يلحق بصاحبه.
لم تعد القوى العسكرية بحاجة إلى تكبد عناء الانتقال من أرض إلى أخرى لشن هجوم مدمّر خلف صفوف الأعداء. إن العتاد الحربي لم يعد متحقّق بالمعنى الفيزيقي الذي يستلزم وجوده في أرض المعركة. فقد باتت المعارك تدار عن بعد عبر شبكات اتصال وأقمار صناعية وأنظمة كمبيوترية عَسْبَرِيَّة (ورد مصطلح عَسْبَريّ في المقال السابق حيث نُحِت خصيصاً للدلالة على الصفة المزدوجة العسكرية ـ السيبرانية). إن هجوماً بطائرات بدون طيار على أحد الأهداف في أفغانستان، مثلاً، قد يشنه جنود أمريكيون بينما هم جالسون على مقاعدهم الوثيرة في القواعد العسكرية بولاية أريزونا، فيما يشبه ألعاب الفيديو. وبعد أن ينتهي الجنود من شن هجومهم العسكري، عن بعد، فبمقدورهم العودة لتناول القهوة مع ذويهم، عن قرب.
لكن، المجال الخامس للحرب يتجاوز مستوى الهجوم على أهداف عينية بطائرات بدون طيار إلى مستوى الهجوم على أهداف غير عينية، غير ملموسة، وغير فيزيقية. أعني، تحديداً، الهجوم على البيانات التي باتت تتمثل كل الأشياء في حياتنا. إن ما يحتاجه الجنود العَسْبَرِيّون في هذه الحالة هو الاعتصام خلف خطوط الإنترنت، انتظاراً للحظة الحاسمة. وخطورة الأمر تتمثل في محاربة عدو شبحي، يسبح بحرية في فضاء الإنترنت المظلم، ويقتنص الفرص المناسبة للانقضاض على منظومات البيانات والتسبب في خسائر فادحة. وحتى إذا اكتُشف بالدليل القاطع صدور الهجوم من دولة بعينها، وهو ما يمكن التعرف عليه من منظور تقني، إلا أنه يظل تحديد هوية مدبَّر الهجوم، بمثابة تحدي كبير. إنهم بمثابة أشباح سيبرانية تتقن التخفي، والتسلل، والانسحاب السريع من كابلات الإنترنت.
تعرِّف اللجنة الدولية للصليب الأحمر الحرب السيبرانية على أنها "وسائل وأساليب القتال التي تتألف من عمليات في الفضاء الإلكتروني، ترقى إلى مستوى النزاع المسلح، أو تُجرى في سياقه، ضمن المعني المقصود في القانون الدولي الإنساني". ولأننا أمام مفهوم جديد للحرب، يتجاوز مفهومها الشائع، فمن الضروري وضع ضوابط إنسانية للحرب السيبرانية وفق القانون الدولي، وإجراء مراجعات لاتفاقيات جنيف التي تعود للعام 1949، نتيجة التبعات الإنسانية الوخيمة على أرواح المدنيين والبنية التحتية المدنية. وذلك في حال حدوث هجمات سيبرانية متعمدة على أهداف مدنية، أو في حال خروج تبعات الهجوم من أيدي المهاجمين ليصيب أهداف مدنية لم تكن في الحسبان، وهو أمر وارد حدوثه، حسب الخبراء. لهذا، فافتقاد الضوابط الدولية المنظِّمة للحرب السيبرانية قد يؤدي إلى وضع إنساني كارثي، لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي قد ينتج عن وجود قوى نووية خارج الشروط الدولية.
إن معظم "الأشياء" في حياتنا المعاصرة تعمل بواسطة أنظمة كمبيوترية متصلة بالإنترنت، فيما اصطلح على تسميته بـ "إنترنت الأشياءInternet of Things " أو "إنترنت كل شيءInternet of All ". إذاً، معظم الأشياء في حياتنا مُعرَّضة للهجمات السيبرانية نتيجة اتصالها بالإنترنت. لكن، لابد وأن نفرق بين كل من الحرب السيبرانية بمعناها العسكري، والهجمات السيبرانية بمعناها الإجرامي. على أي حال، كلاهما يتمَوضَع في الجانب الخطير من الإنترنت، وتتجسد محصلتهما النهائية في صور عديدة من تدمير البنى التحتية والشلل العام في مرافق الدولة. كأن يُشن هجوم "عَسْبَريّ" على شبكات الاتصال الوطنية، وتخترق كمبيوترات المؤسسات الرئيسية. وفي هذه الحالة، قد تنقطع الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والإنترنت والهواتف، أو تتعطل المطارات وترتبك حركة الملاحة الجوية، أو تُخترق الحسابات البنكية، أو يحدث انفجار نووي نتيجة العبث في أنظمة المحطات النووية، أو فيضان نتيجة تعطيل السدود، أو تفجير في خطوط الغاز، أو يتم التحكم في الأنظمة الصاروخية والأقمار الصناعية، أو إرباك حركة القطارات، أو تعطّيل أنظمة المستشفيات ... إلخ.
إذاً، تتجاوز مخاطر العمليات "العَسْبَريَّة" مستوى الخسائر في البيانات إلى الخسائر في الأرواح. ولهذا، استقر الفضاء السيبراني ضمن آليات التأثير العسكري وحساب موازين القوى في العالم المعاصر القائم على مركزيات المعرفة الديجيتالية digital. وعليه، من يمتلك أسرار هذا الفضاء اللاكونيّ، أولاً، يمتلك أسرار العالم، تالياً؛ ومن يدرك الآليات والشروط التي تحكمه، أولاً، يدرك الآليات والشروط التي تحكم الجماعة العالمية، تالياً؛ ومن يستطيع تهديد أمنه واستقراره، أولاً، يستطيع التأثير في صناعة القرار السياسي العالمي، تالياً.
كذلك، إن المجال مفتوح على مصراعيه لتمرير سيناريوهات لانهائية حول التخريب السيبراني المحتمَل. في تسعينيات القرن العشرين وبعد انتهاء الحرب الباردة، صعدت قضية أسلحة الدمار الشامل إلى مرتبة متقدمة على أجندة الأمن العالمي. والآن، فإن قضية الأمن السيبراني تحتل أولوية شديدة على أجندة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وعديد المؤسسات المحلية والدولية. وإن ما يجعل هذه القضية أكثر إلحاحاً هو إمكانية حدوث الهجمات من قِبل مُهَكِّرِين hackers مرتزقة أو ميليشيات سيبرانية لا تخضع لسلطة مركزية. إن هذا الاحتمال الأخير يجعل الأمر أشبه بالعودة إلى زمن الحرب بالوكالة. أما الصراعات الدولية من أجل السيطرة على فضاء الإنترنت، فإنها تستدعي إلى الذاكرة صراعات القوى الإمبريالية من أجل السيطرة على طرق التجارة في أعالي البحار. ولكن، الهجمات والصراعات لا تتخذ، في هذه الحالة، من تضاريس البر ولا من أعالي البحار مجالاً للاعتداء، وإنما من تضاريس الشبكات الوطنية وأعالي الإنترنت. والحال، يتسع مجال الهجوم ليشمل كل شيء متجسد في صيغة بيانات تتجول فوق البراري الديجيتالية أو تسبح تحت المياه السيبرانية.