top of page

Breaking the Digital Future (2-2): Apple and Steve Jandali وثبات المعرفة : مستقبل أبِل بين مصعب جند



في مطار هيثرو، وتحديداً في بداية شتاء العام 2008، حدث أمرٌ مثيرٌ للدهشة بمقاييس تلك الفترة، إذ لم نكن قد اعتدناه في عالمنا بعد، وأظن أن تفاصيله لن تغادرني أبداً. رجلٌ ذو ملامح أوروبية وعينين تنهمران على يديه كمثل شلالٍ من الشغَف، رابضٌ على السلم المتحرك صعوداً، بينما كنت أتحرك نزولاً في الجهة المقابلة. مما منحني أفضلية الرؤية ومكنني من أن ألمح مَصَبَّ شغفه. لم أكن متأكداً، حتى تلك اللحظة، أي نوع من العَتَاد هذا الذي امتلأت به قبضة يده اليمنى، بينما كان يحرِّك أصابع يده اليسرى على شاشته "الملونة"، ذهاباً وإياباً.


لقد كان هاتف "آي فون iPhone" الشهير، عقب ظهوره التاريخي في 29 يونيو 2007، أي خلال الفترة الذهبية التي كانت شركة أبل تحظى خلالها بقيادة ستيف جوبز. وقد كان أول هاتف ذكي "متطوِّر" في العالم، يحمل مواصفات بدت صادمة للجميع، ويمثل سلالة عَتَادِيَّة جديدة تقع في مرتبة وسيطة بين الكمبيوتر الشخصي والهاتف النقَّال. وفي ذلك الحين، لم تكن قد بلغت شعبيته حد الهوس الذي تتشكل معه صفوف انتظار أمام محلات بيعه لساعات، وربما أيام، مع بداية طرح كل إصدارة جديدة منه. وفي ذلك الحين أيضاً، لم يكن عدد الهواتف المحمولة في العالم قد تجاوز عدد فراشي الأسنان (وهو ما حدث في نهاية العام 2014 حسب جوجل)، أي بعد سبعة أعوام تقريباً من إطلاق آي فون. كما لم تكن حمّى السوشيال ميديا قد اجتاحت العالم بعد، وقد كنا قبل ذلك قليلاً ما نسمع عن فيسبوك وتويتر ويوتيوب وسكايب، ولم يكن قد ظهر بعد لينكِدِن وإنستاجرام وواتساب وآلاف التطبيقات الأخرى المنتشرة اليوم بفضل الهواتف الذكية. إنها لحظة تاريخية فارقة بين حقبتين من حقب الثورة الديجيتالية، ومرحلتين من مراحل تطور مجتمع المعرفة وصناعة الإنترنت. وأذكر أن الأحاديث الجانبية حول آي فون، وقتذاك، كانت مشحونة بكثير من الإثارة والإعجاب الشديدين، مما جعلني أستدعي تلقائياً صوراً ذهنيةً للهبوط الأول على سطح القمر. ولعلي لا أبالغ فيما ذهبت إليه. فالحق، إن "ستيف جوبز" صنع أعظم هبوط على سطح كوكب الإنترنت اللافضائي.


في تلك الأيام الخوالي لم يكن أحد يتوقع أن ستيف سيعيد الكَرَّة في العام 2010 بطرح الكمبيوتر اللوحي "آي باد iPad". وحتى ذلك الحين، لم تكن طريقة الكبس بالأصابع على شاشات بحجم كف اليد أمراً معتاداً في عالم الإنسان. فقد تعمَّد جوبز أن يكون تَلقِيم تلك الأجهزة، والتفاعل معها، باستخدام أصابع اليد (وليس أداة وسيطة أخرى كلوحة مفاتيح أو قلم كتابة). ذلك أنه أراد لها أن تكون "أكثر بشرية more human-like". والحال، بتنا نكبِس على تلك الشاشات الصغيرة مثلما نتنفس الهواء أو نشرب الماء. بعدما تحولت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من رفاهية اجتماعية إلى ضرورة حياتية في متناول كل إنسان، فيما يُشار إليه بثورة "الفابلت" phablet (كلمة هجينة منحوتة من كلمتي الهاتف phone والكمبيوتر اللوحي tablet PC). مما غيّر خارطة الاقتصاد القائم على المعرفة، وعجَّل برفع معدلات انتشار الإنترنت لتبلغ في نوفمبر 2015 ما يقرب من نصف سكان العالم بواقع 3.4 مليار مستخدم تقريباً (حسب Internet World Stats). وأزيد على ذلك بالقول، إن تعلُّق أطفال العالم الآن بتلك الشاشات الصغيرة بات متقدماً على التعلُّق بأشيائهم التقليدية كالدميَّة القطنيَّة والأرجوحة الهوائية ولَهَّاية الرُضَّع.


إنه "ستيف بول جوبز" المولود في العام 1955 لأب سوري الأصل يدعى "عبدالفتاح جندلي"، كانت أمه ذات الأصول السويسرية الألمانية قد عرضته للتبني إثر اختفاء أبيه. ولعل من حُسن الطالع الديجيتالي أن تتبناه عائلة "جوبز" الأمريكية، ليُحدِث ستيف لاحقاً طفرات تكنولوجية، كسرت نمطية التطور في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ولعل أبرز مقومات نجاح جوبز، تمثلت في قدرته على حفر ثقوب كاشفة في جدار المستقبل، والتي كانت تمتد لأعماق زمنية بلغت في بعض حالاتها العَقد وربما العقدين. إذ، استطاع من خلالها رؤية المستقبل التكنولوجي بصورة أكثر جرأة وعمقاً، استحالت إلى تغيرات جذرية على أرض الواقع فيما يتصل بأنماط الحياة والإنتاج.


خلال ثلاثة عقود، قضاها في حقل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، قبل أن يغادر حياتنا مبكراً، تمكن ستيف (الذي كان يفترض به أن يكون "مصعب جندلي") من حفر ستة ثقوب في جدار المستقبل، شكَّل من خلالها ست رؤى فريدة، أسفَرَت عن ست وثبات عملاقة في مسيرة مجتمع المعرفة، هي على الترتيب: 1- الكمبيوتر الشخصي PC، وكان أول كمبيوتر شخصي أنتجته أبل (في نهاية السبعينيات) يعمل عن طريق شاشة التليفزيون المنزلي لتنفيذ وظائف بسيطة جداً. ثم جهاز "ماكينتوش" في العام 1984 كأول كمبيوتر شخصي به فأرة ونوافذ جرافيكية. وإن كانت الفأرة قد وُلدت داخل مختبر أبحاث "زيروكس" إلا أنها كانت المرة الأولى التي ينتبه فيها أحدهم من منظور تجاري، وهو ستيف جوبز بالتأكيد، إلى قدرة هذه الأداة الصغيرة على تغيير مستقبل الكمبيوتر (سأعود إلى قضية الكمبيوتر الشخصي لاحقاً)؛ 2- نظام التشغيل متعدد النوافذ، وهو نظام "ماكينتوش" الذي أسهم في تطويره بيل جيتس ذاته، ثم استلهمه لإنتاج نظام "ويندوز" الذي باعه لاحقاً إلى الشركات المصنعة للكمبيوتر مثل IBM. مما قفز بأرباح شركة ميكروسوفت (المملوكة لجيتس) في مقابل تراجع مبيعات "ماكنتوش" وهبوط أسهم أبل. الأمر الذي أدى إلى الخصومة الشخصية والقانونية المعروفة بين ستيف جوبز وبل جيتس، على إثر ما اعتبره الأول خيانة من طرف الثاني؛ 3- إنتاج أول فيلم رسوم يتم تحريكه كاملاً بواسطة الكمبيوتر في العام 1995، وهو فيلم Toy Story، عبر دعمه كشريك في شركة بيكسار Pixar (والتي استحوذت عليها ديزني في صفقة ضخمة في وقت لاحق). وقد بلغت تكلفة إنتاج هذا الفيلم 30 مليون دولار، بينما حقق أرباح قدرت بنحو 362 مليون دولار (لابد وأنك لاحظت مثلي ضخامة الأرباح قياساً بالتكلفة). ما ترتب عليه ثورة لاحقة في صناعة الأفلام المتحركة؛ 4- إطلاق مشغل الموسيقى الديجيتالية آي بودiPod في العام 2001 حيث بات بمقدور محبي الموسيقى، وللمرة الأولى في تاريخ الموسيقى المسجلة، شراء أغاني حسب الطلب. كما عزز من طرق إنتاج الموسيقى وإتاحتها؛ 5- إطلاق الهاتف الذكي آي فون iPhone في العام 2007، والذي باعت منه أبل 57 مليون وحدة في أول ثلاثة أعوام، بينما بلغ إجمالي مبيعاته في مارس 2014 نحو 500 مليون وحدة وفي مارس 2015 نحو 700 مليون وحدة (حسب ويكيبيديا)؛ 6- إطلاق الكمبيوتر اللوحي آي بادiPad في العام 2010، والذي بيع منه حتى الآن نحو 282 مليون وحدة (حسب About Tech). ولابد أن ستيف كان في طريقه لخرق مزيد من الثقوب، لولا أن حال الموت بينه وبين جدار المستقبل.


في كل مرة يدشِّن فيها ستيف جوبز منتجات أبل الجديدة، غالباً ما كان يخرج علينا بمشيته الشهيرة التي تحاكي مشية الجمل، ومظهره غير المتأنق، وبنطاله الجينز التقليدي، و"تيشيرته" الأسود الذي يغطي معظم رقبته، ولحيته الطويلة نسبياً، ونظارته الطبيَّة التي تشبه نظارة المهاتما غاندي. بيد أن رسالة "المهاتما" جوبز انطوت على تحرير الإنسان من قيود العوالم الفيزيقية وسلطتي المكان والزمان، وتعزيز الطرق التي نحيا بها ونعمل من خلالها. فتلك المرَّات القلائل غيّرت تاريخ العالم وأعادت ترتيب موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، وغيَّرت طبيعة التنظيمات الاجتماعية. ورغم أنه نجح خلال حياته في تجاوز حلقات متتالية من الإخفاقات والتحديات والخيانات، لم يتمكن ستيف من تجاوز الخيانة الأعظم التي ارتكبها في حقه مرض السرطان. وكان حزن العالم لحظة فقدان "جوبز"، في الخامس من أكتوبر 2011، كحزنه على فقدان زعمائه وملهميه الروحيين.


إلا أنه، استُغِلّت دعائيّاً الأصول البيولوجية للراحل "ستيف جوبز"، على نحو مستهجَن، خلال أزمة المهاجرين السوريين الأخيرة. فيما يحاكي بروباجاندا تجييش العواطف وتزييف الوعي، والتي عادة ما تعمَد إلى اختلاق روابط وهميَّة مثيرة بين قضايا مُلِحَّة وواقعية، من جانب، ونعرات قومية أو إيديولوجية أو مذهبية أو إثنيَّة، من جانب آخر. مما يستدعي النظر في نجاحات جوبز من أجل الوقوف على الحقيقة. كما أن الضرورة تقتضي استرجاع تاريخ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بين الحين والآخر، وتفكيك عناصره الرئيسية بطريقة ممنهجة، تمكننا لاحقاً من إعادة تركيبها ضمن مفاهيم وتصورات عامة، تدعم بدورها جهود التوعية بقضايا مجتمع المعرفة وتحولات المستقبل.


على كلٍ، ما أثار دوافع التفكيك والتركيب هذه، أنه في كل مرة نُجَوجِّل بالعربية "ستيف جوبر"، تُظهِر نتائج البحث، في محتوانا العربي على الإنترنت، كثافة حضور عبارات تدل على أصوله العربية واسمه الأصلي "مصعب عبدالفتاح جندلي" وطبيعة معتقده. مما يستتبع التشويش على حُجِّيَّة الحقيقة وإغواء العقل على الانفصال عن مواكب التفكير العقلاني. هذا عن كوكب الإنترنت الناطق بالعربية، أما في كوكب الإنترنت الناطق بالإنجليزية، فلا تكاد تجد حضوراً لهكذا سرديات بين نتائج البحث باللغة الإنجليزية، إلا بقدر ما يبرره السياق الموضوعيّ أو الخَبَريّ. فما يشغل حقاً العقل الجمعي لهذا الكوكب الأخير، هو استلهام سيرتيه الذاتية، واستجداء الدروس المستفادة من نجاحاته غير المسبوقة. إذاً، شُغِلنا بجيناته العربية عن عبقريته التكنولوجية.


بالعودة بضعة عقود إلى الوراء، وتحديداً في العام 1977، بدأ ستيف من نقطة الصفر في مرآب منزل عائلة "جوبز" بكاليفورنيا، حيث أسس في سن الثانية والعشرين شركة أبل مع صديقه المخترع الشاب "ستيف وزنياك". بينما، لم يكن يمتلك، وقتئذ، سوى رؤيته العابرة للمستقبل، وتفاحته المقضومة، وبضعة سِنتات. وقبيل إبعاده قسراً عن أبل، في العام 1985، كانت قيمتها السوقية قد وصلت نحو 2 مليار دولار، بينما بلغت عائداتها في العام 2015 نحو 233.7 مليار دولار. فقبل عودته في العام 1997، بدت أبل وكأنها جسد بلا عقل، بل كانت على وشك الانهيار الكامل. وهنا، لابد أن نتذكر انهيار شركة نوكيا الرائدة، رغم أنها أول مبتكِر للهواتف الذكية أي هاتف "نوكيا كوميونيكيتور" الشهير في العام 1996، نتيجة افتقادها لرؤية "جوبزية" كتلك التي انبعثت في أبل.


أما جوهر التغيير الذي أحدثه ستيف في العالم، قبل مغادرته أبل، يتمثل في ثورة الكمبيوتر الشخصي. فللمرة الأولى، أصبح ممكناً اقتناء الكمبيوتر في المنازل والمكاتب مثله في ذلك مثل قطع الأثاث أو التلفاز، بعدما كان بمثابة اختراع غامض وفي غير متناول الناس. مما أجبر منافسين عريقين على تغيير سياساتهم الإنتاجية والتحول باتجاه المستخدم الشخصي، وأعني تحديداً شركة IBM. وفيما قبل ذلك، كانت مخرجات صناعة الكمبيوتر موجهة بالأساس إلى الشركات والمؤسسات الكبرى. ليس هذا فحسب، بل كذلك فُتح المجال لمشاركة أوسع في استحداث تطبيقات واستخدامات مختلفة للكمبيوتر. وذلك بعدما كانت مهمة التشغيل والتطوير أمراً "معقداً"، يقع على عاتق خبراء عادةً ما كانوا يرتدون أغطية رأس ومعاطف طويلة بيضاء، وكأنهم بصدد إجراء جراحة طبيَّة دقيقة أو فيما يشبه العمل في مختبرات الفضاء (لابد وأن نتذكر أن ستيف جوبز أراد للسلالة الجديدة من العتاد أن تكون "أكثر بشرية"!). فلم يعد الكمبيوتر يستخدم فقط في أنظمة الطيران أو توجيه الصواريخ أو أنشطة التعبئة والإحصاء السكاني أو حفظ البيانات العسكرية والحكومية، وإنما في مجالات أكثر تنوعاً وشيوعاً مثل الألعاب والبريد الإلكتروني ومعالجة النصوص والصور وتصفح الإنترنت. وقد كانت رؤية ستيف بخصوص الجيل الجديد من الكمبيوترات ترتكز على استخدامه في التعلُّم، فقد كان يعتقد أنه كلما كان الكمبيوتر الشخصي أسرع من زاوية معالجة البيانات، كلما حصلنا على فرص أفضل للتعلُّم. إذاً، بفضل رؤية جوبز، بدأ الإنسان في شق طرق جديدة للحياة عبر أشباه الموصلات. وهنا، ظهر جيل إنساني جديد مختلف في تعريف ذاته وتعيين رؤيته للوجود والآخر، فيما يعرف بـ "الجيل الديجيتاليdigital generation ".


معروفٌ أن ستيف كان طالباً عادياً في سنواته المدرسية. ثم، إنه لم يكمل دراسته الجامعية، ولم يكن مبرمجاً أو متخصصاً في هندسة الكمبيوتر. فلم يكتب كوداً برمجياً، ولم يمسك في يده مفك براغي أو أداة لحام. لكنه، كان يمتلك رؤية "رسوليَّة" ثاقبة في عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، احتضنتها بيئة تَمكِينِيَّة داعمة للمشروعات التكنومعلوماتية الصغيرة. وهنا، التقى ذكاؤه وطموحه ورؤاه مع لحظة تاريخية حاسمة، بدا فيها المجتمع الإنساني على حافة الانتقال من مجتمع صناعي إلى مجتمع معرفة. أما لو قدر لـ "ستيف بول جوبز" أن يظل "مصعب عبدالفتاح جندلي"، فلربما انتهى به الحال إلى مكابدة مخاطر الغرق بين عشرات المهاجرين على متن زورق صيد أو النوم في العراء خلف سياج حدوديَّة تقع على الخط الفاصل بين الخوف من موت محتوم والأمل في نجاة محتملة. بالأخير، ثمة مقولة قديمة (أنقلها مترجمة من رواية باولو كويلو الأخيرة) مؤداها "ليس هناك أحداً أكثر عَمَىً من ذلك الذي لا يريد أن يرى"!

أحدث المقالات المنشورة
المقالات المنشورة
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page