top of page

Existential Shock in a Post-Human Society (1-2): The Digital Elysium صدمة الوجود ما بعد البشري (1-


يحمل المستقبل مفاجآت جد مذهلة بشأن تصاعد وتيرة انفصال الإنسان عن عوالم الحياة الفيزيقية، أي أشياء الحياة وظواهرها المتحقّقة في الواقع الطبيعي، الزمكاني. ومن ثم، اندماجه في عوالم الحياة السيبرانية، أي أشياء الحياة وظواهرها المتحقّقة في الواقع غير الطبيعي، اللامكاني، المتمثل في شبكات الاتصال البُعَادِيّة والبرمجيات الكمبيوترية والآلات الذكية. وإن عمليات الانفصال والاندماج هذه واقعة في المستقبل وقوع البصر على الشيء في الحاضر. ولهذا، بدأت مخاوف الإنسان المعاصر تتفاقم بشأن المستقبل. بل، قد تتحول تلك المخاوف، لاحقاً، إلى صدمة حقيقية تقع تحت تأثيرها المجتمعات التي سوف تتأخر في الأخذ بأسباب هذا المستقبل أو تتردد في الانخراط في تحولات مجتمع المعرفة المعاصر. وهي التحولات التي ستطال مختلف البنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية.


إن هكذا صدمة سوف تتجاوز كل مظاهر "صدمة المستقبل" التي أخبر عنها المفكر الأمريكي المعرف "ألفين توفلر"، في كتابه الذي صدر تحت العنوان ذاته Future Shock. بيد أن، "توفلر" تناول، في مطلع سبعينيات القرن العشرين، مفهوم صدمة المستقبل في علاقته بتحولات المجتمع الصناعي، وتكنولوجياته المتوفرة آنذاك. أما معطيات مجتمع المعرفة المعاصر والتكنولوجيا الفائقة للعلوم الهجينة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في اللحظة الراهنة، فقد تجاوزت كل معقول، قياساً بالمعطيات التي أقام عليها "توفلر" أطروحته، قبل نحو خمس وأربعين عاماً تقريباً.


لقد باتت الإنترنت، بالتحالف مع التكنولوجيات الفائقة من مجالات مختلفة، على بعد خطوات من بسط هيمنتها المطلقة على وجودنا الإنساني. فرغم كل تلك الظواهر والأشياء الجديدة مما غرسته الإنترنت في أنماط الحياة وطرق الإنتاج، فإننا لا نزال نختبر الإرهاصات الأولية لتحولات أكثر عمقاً وأشد راديكاليةً في المستقبل. إن مجتمع المعرفة المعاصر على مفترق طرق يؤدي إلى حلقة جديدة من حلقات تطوره، فيما يسمى "إنترنت الأشياء internet of things"، أو "إنترنت كل الأشياء internet of all". ما يعني ربط كل أشياء الوجود ببعضها البعض: البشر، الآلات، الروبوتات، الكمبيوترات، الهواتف، البيوت، الثلاجات، الملابس، الأحذية، المقاعد، السيارات، القطارات، الطائرات، المتاجر، الأطعمة، أقراص الدواء، حيواناتنا الأليفة ... إلخ. كل شيء، وبلا استثناء، سوف يتشابك في المستقبل ببعضه البعض بواسطة حَسَّاسات وأنظمة كمبيوترية معقدة للغاية وشبكات اتصال هائلة، بهدف تعزيز طرق العيش والإنتاج، وزيادة قدراتنا على التوقع، وترشيد التكلفة، والحفاظ على الموارد، وتقليل الخسائر، وتحسين الأداء، وتحقيق مزيد من الضبط.


هنا، تبدأ الأشياء تتخاطب ذاتياً مع بعضها البعض، أي دون تدخل مباشر من الإنسان، فتُنجَز أعمال لانهائية بواسطة الجماعة الآلية بالنيابة عن جماعة البشر. وإن هذه الوظائف لا تتصل بالطبيعة العضلية للإنسان فحسب، وإنما تمتد كذلك لتشمل وظائف أخرى عقلانية واجتماعية وبيولوجية وحسِّية. لاسيما في ظل تطوير روبوتات قادرة على التعلم والتأليف والكتابة. وكذلك في ظل التطور التدريجي الصاعد في مجال تخليق مكونات غير عضوية أو بيونيكية Bionic (أقترح هذا المقابل العربي للدلالة على الصفة المزدوجة البيولوجية ـ الإلكترونية)، يمكن دمجها في الجسم البشري من أجل تعويض الأعضاء المعطوبة وتحسين الوظائف الحيوية ورفع معدلات الذكاء والقضاء على الأمراض والشيخوخة ...إلخ. فضلاً عن التوجه نحو تطوير روبوتات هيومانوديّة humanoid (أقترح هذا المقابل العربي للدلالة على الروبوتات التي تحاكي الطبيعة البشرية من الناحيتين الظاهرية والوظيفية) تضطلع بوظائف اجتماعية عديدة من بينها، على سبيل المثال، دعم الأطفال المتوحدين ورعاية المسنين وتقديم خدمات جنسّية.


بيد أن، مستقبل الإنسان، في هذه الحالة، لا ينطوي على حياة أبدية في عالم فِردَوسي محفوف بالملذات الاصطناعية والحُور الروبوتية، كما قد يتصور البعض. فإن شغل مساحات وظائفية شاسعة بواسطة مخلوقات الذكاء الاصطناعي وإنجاز كثير من الأعمال ذاتياً ضمن الفضاء السيبراني، يفرض على الإنسان تحدٍ عظيم، يتمثل في استحداث أنواع جديدة من الوظائف التي يعجز أقرانه الروبوتيون عن أدائها. الأمر الذي يعتبر حقاً شديد الصعوبة نتيجة توغل الروبوتات العاملة مستقبلاً في كل المجالات، والذي يعني في الوقت ذاته أن تكون وظائف الإنسان في المستقبل أكثر تعقيداً مما هي عليه الآن. إن استمرار نموذج الإنسان العامل جنباً إلى جنب مع نموذج الروبوتات العاملة هو أمر محسوم وبدهي، فليس ثمة سيناريو مستقبلي لعالم يكون فيه البشر عبارة عن جماعة من الكسالى الذين تَضمُر أطرافهم نتيجة انتفاء الحاجة إليها، حسبما هو متصور في الفيلم الأمريكي WALL-E (من إنتاج العام 2008).


فضلاً عن ذلك، فإن انسحاب العقل البيولوجي أمام تقدم الذكاء الاصطناعي، لا يعني إزاحة مطلقة لقيم الإنسان، خيرها وشرها، من قلب الوجود السيبراني وعالم إنترنت الأشياء في المستقبل. كما لا يعني الطمس التام للموروثات الإنسانية والتكوينات الاجتماعية والسيكولوجية والثقافية، والتي اكتُسبت جميعاً عبر التاريخ الحضاري للإنسان منذ استقراره حول مجاري الأنهار قبل نحو عشرة آلاف سنة، فضلاً عن تشكلها عبر عشرات الآلاف من السنين التي سبقت نشوء الحضارة ذاتها. وإنما، تظل الطبيعة الإنسانية حاضرة في المستقبل، ولكن وفق شروط جديدة تحددها عوامل الوجود ما بعد البشري Post-humanism. وفيه، يتداخل كلا العالمين الإنساني والروبوتي، ويتقاطعان بصورة لا تحاكي أيٍ من صور الوجود الإنساني عبر التاريخ، فيما أسميه "الحياة الإنسبوتية" (أقترح هذه الكلمة الهجينة للدلالة على الصفة المزدوجة الإنسانية - الروبوتية). كما يتداخل كلا العالمين العضوي البيولوجي، من جانب، واللاعضوي اللابيولوجي، من جانب آخر. هذا، مع الأخذ في الاعتبار حلول تلك العولم جميعاً في بعضها البعض إلى حد التجانس والتوحد، بحيث يصعب فصلها أو التمييز بينها.


رغماً عن ذلك، سوف يظل المعنى الإنساني يحظى بحضوره في المستقبل، وإن كان حضوراً مجتزءاً وغير طاغي، كما كان عبر تاريخ الحضارة الإنسانية. بالأحرى، سوف يمارس الإنسان نمطين من الحضور في عالم المستقبل، أولهما حضور غير أساسي في الحيز الفيزيقي التقليدي للحياة والإنتاج عبر مكوناته الجسدية البيولوجية وأشيائه الخارجية الطبيعية، وثانيهما حضور أساسي ضمن حيز الوجود السيبراني عبر مكوناته الجسدية البيونيكية اللابيولوجية المتصلة ذاتياً بأشيائه الخارجية الروبوتية والشبكاتية والكمبيوترية. وفي الحالة الأخيرة، سوف يتحلى الإنسان بخصائص ومهارات متعالية للغاية وسوف يشغل وظائف أكثر تعقيداً مما لا تستطيع الروبوتات القيام به، فيما يُطلق عليه الإنسان السُوبَرِيّ Super-human الذي يتجاوز المعايير الحالية لتعيين الطبيعة البشرية.


إذاً، ثمة مراجعات تدريجية لمركزية إنسان الوجود الكلاسيكي أو الوجود ما قبل السيبراني، وإزاحات نسبيّة في موقعه الاجتماعي والإنتاجي الذي اكتسبه عبر التاريخ. مما سينتج عنه فراغات لانهائية سوف تملؤها سريعاً أشياء الوجود السيبراني وظواهره الفيرشوالية virtual وكائناته الروبوتية وشبه البيولوجية. بينما يشغل الإنسان ما بعد البشري موقعاً في الوجود الجديد، يكون أكثر تعالياً وتعقيداً من أي وقت مضى. وإن سيطرة الكائنات الروبوتية على أغلب الوظائف الإنتاجية والاجتماعية، على حد سواء، يحيلنا إلى تساؤل إشكالي حول المستقبل، ورد على لسان إحدى خبيرات الروبوت الفرنسيات (نقلاً عن إذاعة BBC) مؤداه: هل ما نحتاج إليه هو أن تباشر الروبوتات وظائفنا الاجتماعية ورعاية أسرنا بينما نذهب نحن إلى العمل؟، أم ما نحتاج إليه حقاً هو أن تعمل الروبوتات بينما توفِّر لنا مزيد من الوقت لمباشرة مسئولياتنا الاجتماعية ورعاية أسرنا؟.


هذا هو حال مجتمع المستقبل حيث ينكمش حيز الفعل الصادر عن العقل الإنساني (بوصفه المصدر الأساسي للحضارة)، تاركا مساحة هائلة للعقل السيبراني ليمارس دوراً مستقبلياً محتوماً في تغيير الواقع على نحو مدهش. والأكثر إدهاشاً يتمثل في أننا لا نستطيع رسم صورة ناجزة عن المستقبل، أو الاستشراف الدقيق لكافة مظاهر التغيير فيه، قبل أن تصير، على نحو فجائي، جزءاً منا ونصير نحن جزءاً منها. بيد أنه يظل الإنسان في نقطة المركز من حلقة الوجود ما بعد البشري، على الرغم من تبدُّل شروط انوجاده. على كلٍ، ليس من داعٍ لتأجيج مخاوفنا، فالمستقبل لا يستقيم من دوننا نحن البشر ما دمنا نتمتع بالمرونة اللازمة للتكيف مع ظواهره وأشيائه ومخلوقاته ما بعد البشرية.

أحدث المقالات المنشورة
المقالات المنشورة
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page