top of page

Existential Shock in a Post-Human Society (2-2): Living Dinosaurs in the Internet Era صدمة الوجود


عندما نشعر بالجوع، فإن المعِدة تُصدِر إشارات عصبية لتنبيه المخ إلى حاجة الجسم للتزود بالطاقة، ومن ثم نبدأ في البحث عن مصدر للطعام. هذا ما يحدث عادةً في حالة الوجود البشري. أما في الوجود ما بعد البشري، فإن تكنولوجيا المستقبل سوف تتخذ قرارات مستقلة بهذا الشأن نيابة عن صاحب المعِدة الخاوية. وهنا، ترسِل المعِدة الذكيّة طلبات الطعام مباشرةً إلى أقرب مطعم أو تتصل بُعادِيّاً بروبوتات طاهية لإعداد الوجبات اللازمة. بل، إن هذه العملية سوف تجري بناءً على تحليل مسبق لمعلومات مستقاة من مصادر متنوعة، حيث تعمل خوارزميات معقّدة على تحديد طبيعة الوجبة المطلوبة ومكوناتها وحجمها وطريقة عرضها ودرجة طهيها، وفقاً لطبيعة شهيّتنا ومستوى شعورنا بالجوع وسجلاتنا الطبية وظرفنا المالي ومقدار الطاقة الذي نحتاجه في ذلك التوقيت بالذات.

عبر هذا السيناريو المُتخيَّل ينفتح الباب أمام سيناريوهات مثيلة ولا نهائية، محتملة الحدوث في الوجود ما بعد البشري، بحيث تحمل إلى المستقبل تغيراً دراماتيكياً في الطريقة التي نحيا بها ونرى الوجود من خلالها. لكن، بدايةً يجب الإشارة إلى أن هكذا سيناريوهات مستقبلية تنبثق في الأساس عن تحول النظرة إلى الإنسان باعتباره النوع السائد والمركزي، أي ضمن الوجود بالمعنى الطبيعي، إلى اعتباره بمثابة "شيء" من أشياء الوجود السيبراني ـ ما بعد البشري أو أشياء الإنترنت (أي فيما يعرف بإنترنت الأشياء internet of things). والسبب وراء ذلك، يتمثل في التزاوج بين كلٍ من جسد الإنسان وأدوات التكنولوجيا ما بعد البشرية، ومنها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي AI والتكنولوجيا النانوية nano technology والبيولوجيا السِنْثِيتيَّة synthetic biology (أقترح هذا المقابل العربي للدلالة على ذلك العلم الذي يستخدم مبادئ الهندسة، على تنوع مجالاتها الجينية والكمبيوترية والنانوية ... إلخ، في تخليق مكونات ونظم وآلات بيولوجية) والتكنولوجيا البَيُونِيَّة bionic (سبق اقتراح هذا المقابل العربي للدلالة على الصفة المزدوجة في المصطلح الأصلي: البيولوجية ـ الإلكترونية).

إن أحد السيناريوهات الأخرى قيد التطوير في المختبرات، يتعلق بإمكانية استنساخ الدماغ بطرق اصطناعية أو إعادة تفعيله بعد وفاة صاحبه، عن طريق أنظمة كمبيوترية معقّدة. وفي هذه الحالة، نضمن استمرار الاستفادة من أدمغة العلماء والمفكرين بعد الوفاة، على سبيل المثال. بيد أن كثير من المعلومات المتوفرة حالياً عن الدماغ البيولوجي لا تزال غير كافية، لاسيما وأنه يتضمن بلايين الخلايا العصبية التي ينبغي محاكاتها كمبيوترياً، مما يتطلب سنوات طويلة من البحث والتجريب للوصول إلى نتائج مُرضية. على كلٍ، يمكن القول بأن الجهود العلمية على الطريق لتحقيق ذلك في المستقبل ما بعد البشري.

في سياق آخر، ترتكز التكنولوجيا النانوية على إعادة تشكيل المواد عن طريق التحكم في تركيبها الذري. إذ، تنطوي على ثورة تكنولوجية هائلة، بعدما صار ممكناً التعامل مع المادة على هذا المستوى متناهي الصغر. بهذا، يمكن تغيير معمارية الجزيئات والذرات داخل المادة، ومُنَابَلَة manipulate أو تغيير طبيعتها الأصلية، من أجل إنتاج أشياء متناهية الصغر ومواد جديدة ذات خصائص فائقة تتجاوز خصائص المواد التقليدية منها الأقمشة المقاومة للحريق والأسطح المقاومة للخدش. لكن، ما يخشاه المستقبليون هو إمكانية تطوير تكنولوجيا نانوية لأغراض الحروب ما بعد البشرية. وفي هذه الحالة يمكن بكبسة زر، مثلاً، تدمير مدينة بأكملها بواسطة توجيه ذرات البنايات الشاهقة للتفكك ذاتياً والعودة إلى طبيعتها الخام، أي فيما قبل استخدامها في أغراض البناء.

وفيما يعرف بتكنولوجيا الدواء الديجيتالي digital medicine، وبالتزاوج مع التكنولوجيات النانوية والروبوتية، سيكون من الممكن في المستقبل إنتاج روبوتات نانوية nanobots في غاية الصغر والذكاء، بحيث يتم حقنها داخل الجسم لأغراض طبية منها مكافحة السرطان عن طريق التعامل مباشرة مع الخلايا السرطانية متناهية الصغر. والمدهش في الأمر، أن تلك الروبوتات سوف تتمتع بالاستقلالية وإمكانية التكاثر الذاتي داخل الجسم والمقدرة على اتخاذ قرارات ذاتية حاسمة بشأن المهمة الموكلة إليها.

كما أنه من بين السيناريوهات الأخرى المثيرة، إمكانية إنتاج مخلوقات مختبرية عبر إعمال الهندسة الجينية في الكائنات الحية. وفي هذه الحالة، يصبح لدينا مخلوقات هجينة تجمع بين خصائص بشرية وأخرى حيوانية فيما يشبه تحقق سردية الخيال العلمي من فيلم Splice (من إنتاج العام 2009). إذ، بات من الممكن مستقبلاً إنتاج إنسان سوبَريّ super-human بحيث يحمل، مثلاً، جينات القوة من الحصان، والرؤية الليلية من القطط، وقوة الشم من الكلاب، وهكذا دواليك.

وعندما يتحول الدماغ إلى دماغ شبه بيولوجي معزز بالشرائح الكمبيوترية وتكنولوجيا الاتصال البُعَادِيّ، يصبح بمقدوره التفاعل ذاتياً مع أشياء البيئة السيبرانية، أي دون توجيه واعي من جانب العائل سواء كان إنساناً أو أياً من المخلوقات الأخرى. كما يصبح ممكناً استخلاص الأفكار والمعلومات والبيانات والصور الذهنية مما هو مختزن بداخله، وإعادة تخزينها أو تداولها أو استغلالها في صناعات معلوماتية جديدة. وهنا، يمكننا الحديث عن بعد هائل جديد لظاهرة "البيج داتا" big data، نتيجة إزالة الحدود الفاصلة بين محتوى الإنترنت ومحتوى الدماغ. على كلٍ، إن هذا السيناريو الأخير، قد لا يبدو غرائبياً أو مستهجناً في حال النظر إليه في سياق النماذج الاقتصادية المعاصرة لشركات الدوت كوم. فما تقوم به شركات مثل جوجل وفيسبوك يتمثل في استغلال منصاتها وتطبيقاتها في استخلاص معلومات متعلقة باهتماماتنا وأفكارنا ومشاعرنا وأنشطتنا وتوجهاتنا. ومن ثم، تَسلِيعها عبر معالجتها وتجهيزها في صورة منتج معلوماتي نهائي، يُشكِّل العرض ويلبي الطلب، حسب المفاهيم التقليدية للاقتصاد. والفارق الأساسي بين كلا الحالتين يتلخص في أن شركات المستقبل بمقدورها خلق نماذج اقتصادية جديدة ترتكز على آلية الولوج مباشرة إلى عقولنا واستدراج المعلومات منها ذاتياً، دون الحاجة إلى وسيط انترنتي خارجي أو موقع اجتماعي ليعمل كمنصة استقبال للمعلومات الشخصية.

إن الحالة الكلية التي تتمثل هذه السيناريوهات المحتملة وتلك التحولات العميقة في الطبيعة البشرية، يتم التعبير عنها باستخدام عدة مصطلحات من بينها Post-Humanism، Trans-Humanism، Meta-Humanism، وجميعها تؤدي إلى المعنى "ما بعد البشري". ورغم تعدد المفاهيم النظرية المنبثقة عن "ما بعد البشرية" وتشعب مجالات التطبيق، فإن أحد الدلالات البارزة تتعلق بالرغبة الجامحة في استغلال التكنولوجيا لتحسين خصائص النوع البشري وشروط الوجود ذاته. بيد أنه، من بين المخاطر التي تلوح في أفق تكنولوجيا المستقبل ما بعد البشري، مسألة رَسمَلَة الإنسان ذاته (استعرت الفكرة الأخيرة من البروفيسور روزي بريدوتّي). ما يعني تحويل الطبيعة البشرية إلى سلعة رأسمالية مادية، عبر قفز المؤسسة الرأسمالية على قيمة الإنسان واقتناص الفرص الممكنة للتربُّح بطرق لا أخلاقية، منها إنتاج بشر حسب الطلب. وبهذا، تعيد الرأسمالية التكنولوجية في المستقبل، محاكاة الممارسات الكلاسيكية للرأسمالية الصناعية في الماضي، ضمن سياق آخر أكثر حدة وراديكالية. ومن ثم، تَنْزاح قيمة الإنسان، نهائياً ومطلقاً، من مرتبة متقدمة إلى أخرى متأخرة جداً في النظام الاجتماعي العالمي، فيما أعتبره إهداراً لفرصتنا الأخيرة لاستعادة النزعة الإنسانية في الوجود. إن هذا الأمر يعني أيضاً القضاء على التعددية والتنوع في الطبيعة البشرية، وذلك تحت وطأة التنميط المنبثق عن عملية إنتاج نسخ بشرية مبتذلة ومُكَلشَهَة (أي من كليشيه)، ومُطَابَقَة خصائص البشر الشكليّة والهوياتية والسيكولوجية والاجتماعية والعقلانية والثقافية. الأمر الذي يؤدي إلى انبعاث عديد المخاوف بشأن المستقبل، والتي يجري تعيينها وتفسيرها عبر مفهوم "اللابشرية" inhumanism، وهو المصطلح الذي صاغه في القرن العشرين الشاعر الأمريكي روبنسون جيفيرز.

فلقد تطور النوع البشري بيولوجياً بوتيرة بطيئة جداً، ووفقاً لتراكمات جينية بسيطة استغرقت ملايين السنين، حسبما أكدته الحفريات الأركيولوجية وحقائق العلم الحديث. المهم، إن الإنسان ذاته لم يكن طرفاً فاعلاً في عملية التطور البيولوجي، لا بالنسبة إلى نوعه البشري ولا بالنسبة إلى الأنواع الأخرى، حيث تحدث تلك العملية خارج حيز التحكم الذاتي ووفقاً لمحدِّدات فوق بشرية. أما في حالة الإنسان ما بعد البشري، فثمة فعل مباشر ومُتعمَّد من جانب الإنسان ذاته، يتخلل تلك العملية عبر استدماج أعضاء ومكونات اصطناعية، أي ذات خصائص كمبيوترية بيوتكنولوجية وبَيونيّة ونانوية، في الكائن البيولوجي. وفي هذه الحالة، تَنعَتِق آلية التطور من الطبيعة الجينية البطيئة، أي في حالة الإنسان البشري، ويعاد توجيهها بواسطة الطبيعة التكنولوجية الجامحة ذات الوثبات الهائلة والسريعة، أي في حالة الإنسان ما بعد البشري. وهكذا نصبح أمام مخلوق ما بعد بشري أو إنسان سوبَريّ. ولو تم تمثيل النوع البشري والنوع ما بعد البشري في صورة منحنى متعرِّج، كلٌ على حِده، فلسوف يتقاطع كلا المنحنيين في عدة نقاطٍ تقل تدريجياً بمرور الزمن وكلما تقدمت التكنولوجيات ما بعد البشرية. إذاً، يصبح الإنسان للمرة الأولى في التاريخ، قادر على التحكم في عملية التطور والأسراع في تراكميّة متغيراتها وتوجيه مساراتها نحو إنتاج أنواع جديدة ونوع ما بعد بشري. والحال، سوف تحدُث قطيعة كبرى مع المعنى التاريخي البيولوجي للإنسان، عند مرحلة ما في المستقبل، بحيث يصبح المعنى ما بعد البشري هو المعنى المقبول والثابت والقار في الوجود.

لهذا، فليس من فائدة ترجى من إنكار المستقبل أو مقاومة التحوّل، وإلا تعرضنا لصدمة شديدة ننتهي معها إلى صيغة من صيغ البقاء على هامش الوجود، أي البقاء كانعكاس لمعمارية الطبيعة أو كمحاكاة آلية لطبيعة الانوجاد الغريزي للمخلوقات الأخرى. إن تصوراتنا الحالية بشأن المستقبل تستمد وجودها من العقل الاجتماعي المعاصر وأنساقنا المعرفية الكائنة في الحاضر. لذا، تبدو مخاوفنا مبررة نسبياً، لاسيما وأن تلك التصورات عادةً ما تُستدرَّج خارج سياقها الفلسفي والعلمي عبر تثويرها بمخزوننا الذهني الهوليوديّ وتَبْهِيرِها بتابِل الميثولوجيا التاريخية. لذا، فسرعان ما ستتبدد في المستقبل، والأمر منوط بمدى نجاحنا في الانعتاق الذهني التدريجي من نموذج الوجود البشري التاريخي.

فقد نستطيع فهم مخاوف الإنسان المعاصر بشأن الوجود ما بعد البشري، فور ردِّها إلى سياق الوعي المتدني بطبيعة المستقبل، وبمجرد النظر إليها في ضوء الافتقار إلى المقدمات الاجتماعية والعقلانية والثقافية الضرورية لجعلنا أكثر تصالحاً مع التغيير. فعبر فضاء هذا الوعي المتدني تتمدد مخاوف إنسان الحاضر من الاصطدام مع إنسان المستقبل وبيئة الوجود ما بعد البشرية. بيد أن أشياء الوجود ما بعد البشري وظواهره التي تنبع منها مخاوفنا المعاصرة، سوف تصبح في المستقبل من قبيل المألوف والراسخ والمُتَجَذِّر، نتيجة تعاقب الأجيال وما يترتب على ذلك من تبدُّل في الوعي والأنساق الفكرية والتصورات المتعلقة بالذات والوجود والآخر. ومن الطبيعي أن يعاني إنسان الحاضر من أعراض التحول إلى الوجود ما بعد البشري، بوصفنا نحتل حلقة وسيطة بين الماضي البيولوجي ـ البشري ـ اللاسيبراني، من جانب، والمستقبل البيوتكنولوجي ـ الروبوتي ـ السيبراني، من جانب آخر. فعملية تحول من نمط حياة إلى آخر، كهذه، تنطوي على اهتزازات عميقة تطال مباشرةً بنيات المجتمع وتكويناته الثابتة. وثمة خطورة حقيقية تتهددنا، ما لم نشرع "الآن" في التكيف مع الوجود ما بعد البشري، أو بالأحرى ما لم نشرع في إعداد أطفالنا للتكيف مع نمط عيشهم المستقبلي. ولهذا، شهدنا مؤخراً مؤشرات متفرقة حول مساعي المجتمعات المتقدمة إلى نشر الوعي بأنماط الحياة المستقبلية والألفة مع المخلوقات الروبوتية، لاسيما بين الأطفال.

إننا، بحق، بصدد عالم جديد ومتغيِّر بوتيرة سريعة جداً، باتت تستنفذ طاقاتنا في التكيف معه وترهق قدراتنا التنافسية على إدراكه. وإن تراجع واقعنا العربي اقتصادياً وثقافياً وإبداعياً وتكنولوجياً وعلمياً، يجعله أكثر حساسية من غيره لافتعال توترات صدعيّة وردود أفعال عاصفة، في مواجهة المستقبل. ولما كان مبدأ "البقاء للأصلح" survival of the fittest (صاغه الفيلسوف والأنثروبولوجي الإنجليزي هيربيرت سبنسر 1820 - 1903)، مستمر باستمرار الوجود ذاته، فإن الوجود ما بعد البشري قد يقذف بالمجتمعات التي تمثل الحلقة الأضعف فيه عند نقطة اللاعودة، بحيث تصبح غير قادرة لا على التكيف مع المستقبل ولا على الرجوع إلى الماضي. وهنا، تكون قد تحولت إلى كتلة من الديناصورات البشرية التي لن تعاني خطر الانقراض الحضاري الرمزي فحسب، بل وكذلك الانقراض الفيزيقي المطلق في مواجهة نوع سوبَريّ ـ ما بعد بشري. وإن هذه الفرضية الأخيرة لم ترِد على سبيل المَجاز أو المبالغة!

أحدث المقالات المنشورة
المقالات المنشورة
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page