Digital Death (1-2): Narratives of Death on the Internet الموت الديجيتالي (1): حكايات الموت على كوك
- د. رامي عبود
- Apr 2, 2016
- 5 min read
أخيرا، تطفو قضية "الموت الديجيتالي digital death" فوق تسونامي الإنترنت. إن الإنترنت يوشك ألا يدع، من حياتنا، شيئاً، ولا كينونةً، ولا موجوداً، إلا وعمَّده في مياهه السيبرانية، بعدما نجح في خلق كوكب فيرشوالي virtual موازي لكوكب الأرض الفيزيقي. بل، يوشك أن يصبح الدين "غير الرسمي" للإنسان، بعدما اقترب إجمالي مستخدميه من نصف سكان الأرض. فللمرة الأولى في تاريخ المجتمع الإنساني، تتوحد بفضله كتلة بشرية بهذا الحجم الهائل. وللمرة الأولى في تاريخ الإنترنت، تقف على أبوابه السيبرانية، ليل نهار، هكذا جموعٌ غفيرةٌ، عسى أن تُقضَى حاجاتهم.
في العام 1984 كان هناك نحو 1000 فرد فقط يعيشون في كوكب الإنترنت. بينما اقترب إجمالي مستخدمي الإنترنت، في نوفمبر من العام 2015، من نصف سكان العالم، بواقع 3.4 مليار مستخدم تقريباً (حسب Internet World Stats). لذا، يولَد ويموت على كوكب الإنترنت آلاف وربما مئات الآلاف من البشر يومياً. وفي عالم فيسبوك وحده، يغادر حياتنا الدنيوية إلى الأبد نحو 8000 من مشتركي خدماته يومياً. كما أن إجمالي بروفيلات profiles الإنترنت المملوكة من قبل الأموات، تقدَّر بعشرات الملايين، وفي زيادة مضطردة. ولهذا، التفت العالم مؤخراً إلى قضية الموت الديجيتالي، والذي يشير إلى معاني متنوعة وتجليات مختلفة، ارتبطت أغلبها بالإنترنت. ولمزيد من التوضيح، سوف أسرد عدة حكايات متنوعة منقولة من مصادر مختلفة، تعكس معاني وتجليات الموت في عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
الحكاية الأولى (حدثت بالفعل): قُتل العرِّيف "جوستين إلزورث" في العام 2004، أثناء خدمته في العراق. "جوستين" كان يستخدم خدمة إيميل "ياهوو" لحفظ مذكراته عن الحرب. وبعد مقتله، خاطب والداه شركة "ياهوو" من أجل استعادة كلمة المرور خاصته. وبهذا يمكنهما تحقيق أمنية ابنهما الذي فارق الحياة الدنيوية، فينشرون مذكراته، ويستعيدون ما تبقى منه محفوظاً إلى الأبد في الحياة الإنترنتية. غير أن "ياهوو" رفضت الاستجابة، فتم تصعيد القضية إلى إحدى المحاكم الأمريكية، والتي قضت بإلزام "ياهوو" بأحقية والديّ "جوستين" في استعادة محتوى إيميله. إذاً، ماذا لو فُقد محتوى إنترنتي بهذه الأهمية نتيجة عدم القدرة على الولوج إلى إيميل صاحبه الذي رحل عن دنيانا؟ وماذا لو كان صاحبه في هذه الحالة مفكراً أو شاعراً أو سياسياً أو عالماً، ممن تعتبر مراسلاتهم بمثابة مواد تاريخية لها قيمتها في تعزيز الذاكرة الوطنية والهوية في المستقبل؟.
الحكاية الثانية (حدثت بالفعل): في العام 2010 دُشِّنت حملة إنترنتية لجمع تبرعات لرعاية الأطفال من مرضى الإيدز. وفكرة الحملة تتمثل في توقف بعض النجوم العالميين، من بينهم "كيم كارديشيان"، عن التغريد للملايين من متابعيهم على تويتر. فنشرت الحملة صور هؤلاء النجوم داخل توابيت، معلنةً وفاتهم "إنترنتياً". وكي يعودوا مرة أخرى إلى الحياة، أي يعودوا إلى التغريد، كان على متابعيهم جمع مليون دولار كتبرعات تقدم عبر موقع buylife.org. بالأخير، جُمعت التبرعات، ونجح المتابعون في إعادة الأرواح الإنترنتية إلى نجومهم المفضلين. والسؤال هنا، ماذا لو أفلحت حملة مضادة في حث متابعي "كيم كارديشيان" على عدم إعادتها إلى الحياة الإنترنتية؟، فهل يعتبر هذا الأمر، تقنياً، بمثابة شروع في القتل (بالمعنى الديجيالي)؟، أعني قتل المعلومات والأخبار عنها، والتي تغرِّدها لمتابعيها عبر الإنترنت.
الحكاية الثالثة (تتكرر لنا جميعا): إن بعض أصدقائنا الديجيتاليين، أي من نتمتع بصداقتهم عبر مواقع السوشيال ميديا مثل فيسبوك، فارقوا حياتنا الدنيوية، بينما يتمتعون بحياة أبدية من نوع آخر في الفضاء السيبراني. فلا نزال نزور بروفايلاتهم، ونتصفح بوستاتهم posts، ونقرأ تدويناتهم التي لا تزال تحمل أثراً من كبسات أناملهم على حروف الكيبورد، تماما مثلما اعتدنا في حياتهم. بل، قد نتحدث إليهم بالكتابة على حوائطهم الفيسبوكية، وقد نرسل لهم رسائل خاصة، آملين أن يقرؤها من مستقرِّهم في الحياة الأخروية. إننا نحتفظ بوجودهم في عالمنا الإنترنتي، ولا نجرؤ على حذفهم من قوائم أصدقائناً "خوفا من ألا نتمكن من استعادة صدقاتهم الفيسبوكية مرة أخرى" (العبارة الأخيرة مقتبسة). لكن، في حال إغلاق بروفايلات الإنترنت بوفاة أصحابها، ألا يعني هذا فقدنا لمصادر معلوماتية ومعرفية لها دورها في تغذية وجودنا الاجتماعي؟.
الحكاية الرابعة (يحتمل أنها حدثت لأحد المقربين منك): هل تعلم أن بمقدور أحدهم أن يغتالك ديجيتالياً؟. إذا كان القتل الحقيقي يعني إنهاء الوجود الفيزيقي للإنسان في كوكب الأرض، فإن القتل الديجيتالي يعني إنهاء الوجود "الموازي" للإنسان في كوكب الإنترنت. فإذا اخترق هَاكِر hacker حسابك على الفيسوبك فأغلقه، فإن هذا يعني، تقنياً، قتلك قتلاً ديجيتالياً متعمداً. بالتالي، إذا اخترقت ميليشيا إنترنتية موقع ويب خاص بجماعة مدنية ما فأغلقته، فإن هذا الفعل يوازي، تقنياً، عملية قتل جماعي "ديجيتالي". فالاغتيال، بالمعنى الديجيتالي أي محو الوجود الإنترنتي، في هذه الحالة يعني إزالة المعلومات المتاحة عبر مواقع الويب، وحسابات السوشيال ميديا، نتيجة غلق طرق الوصول إليها، وذلك بطريق غير شرعية.
الحكاية الخامسة (لمن هم في نهاية العقد الثالث من العمر): هب أنك تخليت منذ عشرين عاماً عن كمبيوترك الشخصي، ككثير من أشياءك القديمة، نتيجة عطل، أو تقادم تكنولوجي، مثلاً. ثم هب أنك تمكنت مؤخرا من إعادته إلى "الحياة"، واستعادة الملفات، التي اختزنتها عليه، منذ ذلك الحين. ألا يعتبر هذا الفعل بمثابة "إحياء" جانب من حياتك كان قد انتهى وجوده؟، أليس هذا كنزاً معلوماتياً يستحق عناء نفخ الروح الديجيتالية فيه؟.
الحكاية السادسة (حدثت بالفعل): بعد ستة أعوام من التدوين على الإنترنت، نجح "ماك تونييز" Mac Tonnies في لفت أنظار عدد كبير من المتابعين، وأصبح متحدثاً معروفاً في وسائل الإعلام، في موضوعات الفضاء والمستقبل. في 18 أكتوبر 2009، كتب "ماك" آخر تدويناته، ثم لاحظ متابعوه أنه لم يظهر على مدونته خلال اليومين التاليين، وهو أمر غير معتاد. فتركوا تعليقات عديدة على مدونته تسأل عن سر اختفائه. وبعد مرور أربعة أيام دون حصولهم على رد، بدأت بذور القلق تنبُت سريعاً في قلوب متابعيه. وأخيرا، ترك شخص ما، مقرب من "ماك"، تعليقاً على مدونته، يفيد بأنه قد مات. الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة بين متابعيه. وبمجرد استيعاب الصدمة، بدأ متابعو "ماك" يتساءلون عن مصير إرثه الديجيتالي، ومحتوى مناقشاتهم معه حول قضايا عديدة اكتظت بها صفحات مدونته. وكان من غير الممكن الحصول على محتوى مدونة "ماك" بدون كلمة السر التي رحلت معه إلى عالم الآخرة. ولهذا، شرعوا في العمل بطريقة يدوية لتحميل محتوى ستة أعوام من التدوين، ومن ثم أعادوا إتاحته على الإنترنت بما يحفظ الحقوق الفكرية. وبهذا، استطاعوا إعادة "ماك" من حياته الأخروية إلى حياته الديجيتالية، بعدما أغلقت مدونته على موقع "فليكر" Flickr.
الحكاية الأخيرة (حدثت بالفعل): يروي "جاي هينكنز"، أن قريبه كان يمتلك شركة صغيرة، ثم توفى فجأة. ولم يكن يستخدم الورق كثيراً في توثيق بيانات عملائه، بينما كان عادة ما يحفظها في ذاكرة كمبيوتره بعد تشفيرها. لهذا، اعتبرت تلك البيانات مفقودة لعدم إمكان فك التشفير. فبيعت الشركة بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية، لعدم تمكنهم من تزويد المشتري بها. ومنذ هذه الحادثة، يذكر "جاي هينكنز" أنه اتخذ التدابير اللازمة لنقل كلمات مرور حساباته الإنترنتية، وأجهزته الكمبيوترية، إلى أسرته. إذاً، ألم تؤدي حادثة تشفير البيانات هذه إلى خسارة مادية محققة نتيجة عدم إمكانية إعادتها إلى الحياة الديجيتالية مرة أخرى؟.
وبعد، فإن جملة التطورات الأخيرة في عالم المحتوى مهدت الطريق لظهور حكايات الموت الديجيتالي. أعني، تحديداً، تطور تكنولوجيا إنتاج المعلومات، وبثها، وحفظها. وتاريخياً، بعد أن استقرت خطوات الإنسان على طريق الكتابة الأبجدية والتوثيق على وسائط خارجية، بدلاً من المشافهة والحفظ الداخلي في الذاكرة البيولوجية. فقد، شهد المحتوى ثلاث مراحل تطور، رئيسية، متتالية، ومتداخلة زمنياً، في الوقت ذاته: أولا، المحتوى الورقي، وينتج عن تمثيل المعلومات باستخدام الورق، إما بالكتابة اليدوية أو بالطباعة الآلية، ومنه المخطوطات، والكتب، والصحف؛ ثانيا، المحتوى الأنالوجي analogue، وينتج عن تمثيل المعلومات باستخدام التكنولوجيات الأنالوجية، ومنه تسجيلات الصوت، والفيديو، والصور الفوتوغرافية؛ ثالثا، المحتوى الديجيتالي، وينتج عن تمثيل المعلومات باستخدام التكنولوجيات الكمبيوترية، ومنه ما يتاح "أونلاينonline " عبر الإنترنت، ومنه ما يظل "أوفلاين offline" بالحفظ على أجهزة كمبيوترية غير متصلة بالإنترنت. ومنذ عدة عقود خَلَت، بدأت تحدث هجرة جماعية مضطردة للمعلومات من العالمين الورقي والأنالوجي إلى العالم الديجيتالي. مما خلّف كماً هائلاً من البيانات حول العالم، منها ما فُقد للأبد، ومنها ما هو مهمل أو مجهول أو غير متحقَّق من قيمته المعرفية والتراثية، ومنها ما هو محفوظ ضمن ظروف ومعايير جيدة تضمن انتقاله إلى الأجيال التالية.
لقد أُعيد النظر إلى المحتوى المتاح ديجيتالياً، بشكل عام، وإنترنتياً بشكل خاص، باعتباره أصولاً معرفيةً، لابد وأن تخضع لقوانين الملكية، مثلها في ذلك مثل المحتوى المتاح عبر الكتب والصحف والكاسيت والأشرطة السينمائية والصور الفوتوغرافية. ووفق هكذا وعي جديد، اقتضت الحاجة لجوء والدا العرِّيف "جوستين إلزورث" إلى المحاكم الأمريكية لاستعادة محتوى إيميل ابنهما، وإلى اتخاذ "جاي هينكنز" تدابير تمرير كلمات المرور إلى أسرته، وإلى تكاتف متابعي "ماك تونييز" لاستعادة محتوى مدونته. وإن أية ممارسات تفتقد الوعي بقيمة المحتوى الديجيتالي، تعني إهدار الذاكرة الإنترنتية للعالم، وتجاهل الحق العام في مواد معرفيّة رحل أصحاب الحق الأصلي فيها. كما يعني ضياع قيم تاريخية وتوثيقية ومعرفية ومادية، ينطوي عليها محتوى موتانا المبعثر على الأجهزة الكمبيوترية وفي متاهة الويب.
مصدر الصورة: منقولة من الإنترنت/مشاع