top of page

Digital Death (2-2): Our Legitimate Inheritance in Net Land الموت الديجيتالي (2): ميراثنا الشرعي


الموت شجرةٌ تبعثرت أوراقها بين سكان كوكب الأرض. بيد أن، فروعها أوشكت أن تسقط وجذورها أن تُجتَثَّ من فوق كوكب الإنترنت. إذ، أصبح بمقدور الموتى "العودة" ثانيةً إلى الحياة، والعودة هنا ليست بالمعنى الحقيقي، ولا هي على طريقة زومبي أو فرانكنشتاين أو أي من المعاني المستوحاة من وصفات الخيال العلمي. وإنما تقع العودة المقصودة في مرتبةٍ متوسطةٍ بين الحقيقة والخيال، أي على طريقة كائنات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي تستمد خلودها من أبدية الإنترنت. إنها عودةٌ بالمعنى الاعتباريّ أو الفَرْضِيّ، بالرغم من أنها متحقِّقة ضمن شروط التكنولوجيا والواقع الإنترنتيّ وليس ضمن شروط الطبيعة والواقع البيولوجي. مما سيترتب عليه آثار إنسانية ومتغيرات اجتماعية هائلة، تستتبع إعادة هيكلة هويتنا الإنسانية وتنظيم وجودنا الكليّ في المستقبل. وبعبارة أخرى، سوف يكون باستطاعة الموتى التواصل مباشرةً مع الأحياء، ويكون باستطاعة الأحياء مشاهدتهم والتحدث إليهم وتبادل الخبرات المتنوعة معهم على مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية، بل والحميميّة فيما بين زوجين غيَّب الموت أحدهما عن الآخر.


بلغة التكنولوجيا وبمنأى عن لغة الأحاجي والعبارات المجازية، بات ممكناً حدوث ذلك عبر برمجيات تستطيع توقع ردود أفعال من غادروا حياتنا الدنيوية حسب الظروف والمواقف المتغيِّرة، ومحاكاة أنماط حياتهم وأصواتهم وتعبيراتهم ولغة وجوههم .... إلخ. وبذلك يمكن إعادة إنتاج وجودهم الذي زال وانقطع من شجرة الحياة الدنيا. فبينما تنتقل بكثافةٍ الأشياء والظواهر إلى عالم الإنترنت، وبينما تتحول حياتنا تدريجياً من حياة فيزيقية إلى حياة إنترنتيّة بحيث يصبح كل ما يمثِّلنا عبارة عن بيانات مُختزَنة بُعَاديّاً في مكان ما على الكلاود cloud-stored data، وبينما تتطور بشكل مذهل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وبينما تتقدم سريعاً صناعة المخلوقات الروبوتيّة، وبينما يتحول وجودنا من وجود بشري إلى وجود ما بعد بشري post-humanism (يمكن مراجعة المقال المنشور في عددي فبراير ومارس 2016 تحت عنوان صدمة الموجود ما بعد البشري)؛ في خضَّم كل ذلك سوف تمكننا أنظمة محاكاة كمبيوترية من استعادة موتانا وتمكِّن موتانا من استعادة وجودهم. بيد أن وجودهم، في هذه الحالة، وجودٌ شبه حياتي. ولن نبادر نحن فحسب بالتواصل مع الموتى، بل سيبادر كذلك الموتى بالتواصل معنا من "العالم الآخر" والذي هو عالم الأصفار والآحاد، في هذه الحالة. وذلك عبر التجسيد الضوئي لمن فارقوا حياتنا باستخدام تكنولوجيا الهولوجرام (كما سيتبين لاحقاً). وربما استطعنا في المستقبل القريب استنساخ موتانا في صورة روبوتات هيومَنْدِيّة humanoid تستطيع تعلم كل شيء عنهم في مرحلة وجودهم الحياتي، ثم محاكاتهم لاحقاً في مرحلة وجودهم ما بعد الحياتي أو شبه الحياتي (سبق اقتراح كلمة هيومَنْدِيّة للدلالة على ذلك النوع من الروبوتات الذي يحاكي الطبيعة البشرية من الناحيتين الظاهرية والوظيفية بحيث يصعب التمييز بينها وبين البشر في المستقبل). لذا، تقول د. يوجينيا سيبرا Eugenia Siapera من جامعة دبلن، "لسنا أول من أراد الخلود على ظهر هذا الكوكب، فقديماً بنى المصريون الأهرامات كي تحفظ جسد وذكرى أحبائهم، بينما بنينا حديثاً التطبيقات الكمبيوترية لتحقق الغرض ذاته".


والحال، يسعى على مدار الساعة ملايين البشر للاستحواذ على نصيبهم من فضاء الإنترنت اللامتناهي الأطراف. فثمة هجرة جماعية مقدّسة من العالم الفيزيقي الملموس إلى عالم الإنترنت اللاملموس. وفي كل ثانيةٍ تمر من عمر الوجود، يسعى عشرات وربما مئات الآلاف من مستخدمي الإنترنت لامتلاك أكَّاوِنت account جديد أو الاشتراك في خدمة أو تحميل تطبيق أو التسوّق أو التسلية أو التواصل الاجتماعي والمهني أو التحقق من حالة البورصة والطقس أو البحث عن إجابة لتساؤلات كبرى وصغرى أو التعبير عن الذات، أو ربما الحصول على حيز آمن لممارسة طقوس التحرر من قيود الزمان والمكان والتقاليد والتنظيمات الاجتماعية والأنساق الفكرية المهيمِنة. والقائمة لا تنتهي ولن تنتهي. وفي أثناء هذا وفي غمرة ذاك، يستمر الإنترنت في التوسُّع إلى ما لانهاية عبر كابلات الفايبرجلاس وموجات الاتصال الكهرومغناطيسية، فيما يحاكي عملية تمدد الكون المنتظمة منذ الأذل عبر الفضاء السرمدي. وبذلك ينتقل الوجود الكلّي تدريجياً من الحياة الأرضية إلى الحياة الإنترنتيّة، وتتحول طبيعة الانوجاد الإنساني من انوجادٍ نمطِيٍّ، أي يجسد الشكل الطبيعي الفيزيقي فحسب، إلى انوجادٍ هَجِينٍ، أي يجمع بين الشكلين الفيزيقي والفيرشوالي، فيما أسميه الوجود الفيزشوالي (بالزاي وليس بالراء).


لعل تطبيقات السوشيال ميديا تأتي في مقدمة الوجهات المفضلة في تلك الهجرة الجماعية، مثل فيسبوك وتويتر ولينكدِن ويوتيوب وإنستاجرام وسنابتشات وواتسآب ... إلخ. وما أن يتسلم كل منا صك ملكيته الخاصة في أرض السوشيال ميديا، حتى نشرع في تثبيت أحقيتنا بها عبر إعادة إعمارها بذكريات ومعلومات وأحداث وصور وبوستات وتغريدات ووثائق وكتب وفيديوهات وأفلام وأغاني ومواد نادرة. وتتفاوت قيمة المحتوى بتفاوت أهمية مُنشِئه وموقعه الوظيفي وتراتبيته ضمن الحيز العام وقدرته على التأثير في متابعيه، حيث تتناوب قيمته ارتفاعاً ونزولاً بين كاتب وسياسي ونجم ومفكر وقائد روحي وشخص عادي أو غير ذلك، وفقاً لعوامل وظروف مختلفة. ويحدث أن يتكالب الزوار على تلك المِلكيات الفيرشوالية ويتزايد متابعو بعض بروفايلات السوشيال ميديا ليصبحوا بالملايين. وفي مثل هذه الحالة، تتجاوز الأصول الإنترنتيّة قيمتها المعنوية (كما في حالة العرِّيف جوستين إلزورث الواردة في الحلقة السابقة من المقال)، بينما تزداد قيمتها المادية لتجلب المال على أصحابها مع مطلع كل شمسٍ واسوِداد كل ليل.


كما يتكالب أصحاب المصلحة لدفع آلاف الدولارات لنجوم المجتمع ومشاهير الإنترنت في مقابل نشر تغريدة أو بوست، يتحدَّد محتواه مسبقاً بما يخدم أغراض الدعاية والتسويق والتأثير في الرأي العام للجماعة الإنترنتيّة. وقد لا يمتلك بعض محترفي صناعة الإنترنت أصولاً مادية فيزيقية، بينما لهم في أرض الإنترنت أصول ديجيتالية تفوق قيمتها قيمة ممتلكاتهم في الواقع، كما في حالة مطوري الألعاب والحلول والخدمات والتطبيقات الهاتفية ومالكي قنوات اليوتيوب. فقد تصدَّرت إحدى قنوات اليوتيوب المخصصة للأطفال، عائدات العام 2014 محقِّقة نحو 5 مليون دولار أمريكي (رجاءاً لا تحدِّثني هنا عن الارتكاز على تنمية الاقتصاد الزراعي أو الصناعي، بينما يمكن جني عشرات أضعاف عائدات الاقتصادات التقليدية من صناعة الإنترنت والمحتوى الديجيتالي). وبينما نشأت تلك القناة اليوتيوبيّة في العام 2012 فقط، فقد استطاعت تحقيق إجمالي مشاهدات بلغ 380 مليون مرة مشاهدة شهرياً عبر فيديوهات قصيرة تقوم فيها سيدة مجهولة الهوية بفتح ألعاب ديزني المحشوة بالسكاكر وإعادة تركيب الألعاب المفكَّكة (نقلاً عن fusion.net). إلا أنها على ما يبدو حازت إعجاب أطفال العالم.


إن قضية الموت الديجيتالي تسترعي، في الآونة الأخيرة وأكثر من أي وقت مضى، اهتمام الحقوقيين والأكاديميين وخبراء الإنترنت حول العالم. حتى باتت تُدرَّس ضمن مناهج مستقلة في بعض الجامعات الغربية. ومن بين الأسباب الرئيسية، تلك التبعات المنبثقة عن الزيادة المطردة في حجم المحتوى الذي فقدنا إمكانية الوصول إليه، نتيجة لأسباب مختلفة تتعلق بالمعنى العام للموت الديجيتالي (ورد بعضها في المقال السابق). وقد قدَّرت دراسة حديثة عدد "الأمريكيين" من مشتركي "فيسبوك" فقط، ممن سيغِّادرون عالم الأحياء في العام 2016 بنحو 972 ألف فرد (حسب thedigitalbeyond.com). وبالنظر إلى مجمل العالم، فلابد وأن يتضاعف هذا العدد مراتٍ كثيرة. الأمر الذي يعني إهدار مصادر مهمة للمعلومات والمعرفة نتيجة غياب أصحابها، فضلاً عن حقوق مادية ومعنوية يتحقق وجودها بتحقق الوصول إلى محتواهم الشخصي من مدونات وصفحات السوشيال ميديا وقنوات اليوتيوب ومواقع شخصية وهواتف ذكية وكمبيوترات تَابلِتِيَّة Tablet Computer (أقترح هذا المقابل العربي) ... إلخ. ونقاش المهتمين بهذه القضية لا يدور داخل الدوائر المؤسساتية فقط، وإنما يجري أيضاً من منظور مجتمعي بحيث يطال قضايا عدة، منها إمكانية توريث محتوى الموتى، أو بعبارة أدق: محتوى الذين انتقلوا من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأخروية. ومن ثم، فإن الذين انتقلوا من الحياة الدنيوية واستعادوا وجودهم في الحياة الإنترنتيّة، سوف يتيسر الاستفادة من موروثهم المحتوائي على غرار أشكال المواريث المادية الأخرى مثل المال والعقار.


إن حياتنا المعاصرة باتت موزعة بين عالمين، 1- العالم الفيزيقي، والذي تتعين فيه المِلكية من خلال الموجودات الملموسة والمحسوسة والعينيّة، كقطعة أرض أو عقار أو سيارة أو ألبوم صور فوتوغرافية أو دفتر مذكرات ... إلخ، 2- العالم الفيرشوالي، والذي تتعين فيه المِلكية من خلال الموجودات اللاملموسة، كصفحة فيسبوك أو موقع إلكتروني أو محتوى إيميل (email) أو تطبيق ذكي أو قناة يوتيوب أو مدونة ... إلخ. وإن مسارات تدفق البيانات لا يهدأ فورانها ليل نهار. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في كل دقيقة تمر في عمر الإنترنت، يُرسَل نحو 204 مليون إيميل، وتُنشَر نحو 347 ألف تغريدة، وتُرفَع على يوتيوب نحو 300 ساعة من الفيديوهات الجديدة (حسب Domo.com). وأبرز التبعات المترتبة على ذلك، ما كشفت عنه دراسة مسحية أجرتها في العام 2014 حول العالم شركة مكافي McAfee، إذ بيَّنت أن متوسط قيمة الأصول الديجيتالية للفرد الواحد يعادل نحو 35 ألف دولار تقريباً، أي ما يساوي سعر سيارة BMW جديدة. طبعاً، مع تأكيد تفاوت متوسط القيمة صعوداً وهبوطاً بين بلد وآخر، وظروف ثقافية واجتماعية واقتصادية وأخرى. والمقصود بالأصول الديجيتالية digital assets الشخصية، ذلك المحتوى الخاص من صور وفيديوهات وملفات شخصية ومهنية ومراسلات ومواد للتسلية ووثائق مُمَسْكَنَة scanned (أقترح هذا المقابل العربي للدلالة على الأشياء الممسوحة ضوئياً)... إلخ، والمحفوظ بالضرورة على عتادنا من كمبيوتر شخصي وهاتف ذكي وكمبيوتر تَابلِتِيّ. فقد أظهرت دراسة مكافي أيضاً أن نسبة قدرها 23% من الذكور و17% من الإناث يملكون أكثر من خمسة أجهزة ديجيتالية. وأن نسبة قدرها 51% يقضون أكثر من ساعتين يومياً في استخدام تلك الأجهزة، بمعدل 20 ساعة أسبوعياً، أي ما يعادل عدد ساعات العمل في وظيفة بدوام جزئي (حسب thedigitalbeyond.com). وهنا، لنتخيل ضخامة حجم المحتوى الشخصي المترتب على استخدام الإنترنت مدى الحياة على طريقة العمل بدوام جزئي.


هنا أيضاً، لنتخيَّل فرضاً أننا استطعنا تحويل محتوانا، والذي هو بقيمة 35 ألف دولار، من الصيغة الديجيتالية إلى الشكل الورقي، ألا يترتب على ذلك ملء عشرات الرفوف كتلك المخصّصة لحفظ التراث الورقي والمجموعات الخاصة والوثائق العامة؟، وهل يمكن التخلي عنه بسهولة رغم أنه قد يكون بمثابة مكوِّن مهم من مكونات الذاكرة الوطنية؟. وأزيد على ذلك، إن عملية جمع هكذا تراث إنترنتيّ وحفظه وصيانته وإتاحته، تتكلف أقل بكثير جدا منها في حالة التراث الورقي. وعلى الرغم من كل ذلك، قلما نشغل أنفسنا بالتفكير في التبعات اللاحقة المترتبة على انتقال مُنشِئ المحتوى الشخصي من الحياة الفيزشوالية (بالزاي وليس بالراء) إلى الحياة الأخروية. فمن سيرث محتوى الأفراد في كوكب الإنترنت؟، وما آلية انتقاله إلى الوارثين؟، وما شروط إدارته والتصرف فيه؟، وما الحقوق المترتبة عليه؟، وما طبيعة المسئولية القانونية والوطنية من جانب الحكومات تجاهه؟. هذه الأسئلة وغيرها، قد لا تطرح مطلقاً أو ربما تُثار على مضض ودونما اشتغال جاد بالعثور على إجابات قطعيّة أو ابتكار حلول تكنومعلوماتية.


كما، لابد وأن لهذا المحتوى الشخصي دورٌ ما في تقديم معلومات ومعارف متنوعة ونشر الثقافة وتطوير الوعي، وتغذية منظومات القيم الوطنية والتاريخية والهوياتية والاجتماعية والشعورية، مما لذلك من انعكاسات مباشرة على المجتمع المحلي في أرض الواقع. وهو أيضاً مادةٌ خام ثرية بالنسبة للمهتمين بالبحث الأكاديمي والتنقيب الأركيولوجي في التراث الإنترنتيّ. ومن ثم، فإن حياة صاحب المحتوى في الوجود الإنترنتيّ، لا يجب أن تنتهي بانتهاء حياته في الوجود الدنيوي. ولا ينبغي أن نفقد سبل الوصول إلى المحتوى الشخصي الذي يتمثَّل قيم متعالية، كتلك التي ذُكرَت سلفاً، بعدما يغيِب مُنشئه عن دنيانا. و الفَرْضيَّة الأهم من كل ما سبق، أنه عندما نتمكّن من إحياء (أي بالمعنى الفيرشوالي وليس البيولوجي عبر تطبيقات محاكاة المخ البشري، مثلاً) عقول استثنائية غادرت وجودنا البيولوجي، مثل نجيب محفوظ وجابرييل جارسيا ماركيز وألبرت آينشتاين وستيف جوبز وزها حديد وإدوارد سعيد وغيرهم، فسوف نضمن استمرارية عطائهم الفكري والعلمي، في هذه الحالة. ولعل هذه الفَرْضيَّة، قد غادرت مؤخراً دائرة المُحال والمُتعذِّر واللامتحقِّق، واستقرت في دائرة الممكِن والمَستطَاع والمُتيسِّر، ولابد وأنها ستعاود تقدمها في المستقبل القريب لتنتهي إلى دائرة الحقيقيّ والثابت واليقينيّ الذي لا يحتمل الشك.


بالعودة من أرض المستقبل إلى أرض الإنترنت، والذي صار هو ذاته واقعاً ملموساً بعدما كان خيالاً علمياً مستقبلياً (على ما يبدو أن أقدم روايات الخيال العلمي التي توقعت ظهور الإنترنت تعود إلى العام 1863، إذ يذكر الفيزيائي وعالم المستقبليات الشهير ميتشيو كاكو في كتابه physics of the future أن رواية "باريس في القرن العشرين" والتي كتبها الروائي الفرنسي المعروف جول فيرنJules Verne ، صاحب "رحلة إلى مركز العالم" وغيرها من الروايات الخيالية المعروفة، توقعت ظهور مخترعات عديدة منها التليفزيون والقطارات السريعة وشيئاً يشبه الإنترنت). على كلٍ، بعدما أُرهِق مزودو خدمات الإنترنت والبرمجيات سعياً وراء الأحياء، شرعوا في التنافس على زيادة عملائهم من الموتى ومكاسبهم من الموت. وبعبارة مباشرة، ثمة تنافس اقتصادي يحتدم تدريجياً حول تقديم حلول وتطبيقات وخدمات تتوافق مع مفهوم الموت الديجيتالي. فقد وفرت شركة إنتل Intel خدمة جديدة عبر الإنترنت تدعى باسوردبوكس PasswordBox، وهي الخدمة التي تسمح لمستخدميها بحفظ كلمات المرور الخاصة بهم والمتعلقة بإيميلاتهم أو بروفيلاتهم في الإنترنت أو الخاصة بكمبيوتراتهم الشخصية وهواتفهم الذكية ... إلخ. ومن ثم، تنتقل كلمات المرور هذه للشخص الذي يوصِي به صاحبها بعد وفاته. فكلمات المرور، تحفظ بشكل عشوائي ومشفَّر بحيث لا يتمكن الأشخاص غير المسموح لهم من الحصول عليها بطرق غير شرعية. بينما يمكن لصاحبها فقط، أي في حياته، أو لمن يوصِي به، أي بعد وفاته، الولوج إلى هذه الخدمة والحصول على كافة البيانات المختزنة بها، والتي قد تتضمن أيضا ملاحظات أو وصايا أو أفكار أو غير ذلك من الأصول الديجيتالية.


وقد خَصَّص موقع dead social خدماته لغير الأحياء فقط، بحيث يسمح لهم بحفظ تغريدات وبوستات مدونة سلفاً، ثم ينشرها بطريقة أوتوماتيكية عبر بروفايلاتهم في فيسبوك وتويتر بعدما يغيِّبهم الموت. كما يرسل معايدات لأقربائهم بصفة منتظمة، أو غير ذلك من الخدمات التي تضمن استمرارية الاتصال بين الأموات والأحياء. وفي اليابان، وفرت شركة ياهوو خدمة تدعى Yahoo Ending Service، فبعد التأكد من وفاة مشتركيها، تبعث هذه الخدمة رسائل الوداع إلى الآخرين، وتحذف البيانات الشخصية المخزنة في خدمات ياهوو المختلفة، وتمكِّن الزائرين من تسجيل عبارات التعازي أونلاين. كما وفرت جوجل خدمة تدعى Interactive Account Manager يستطيع من خلالها مستخدمو جوجل تحديد كيفية التصرف لاحقاً في بياناتهم المختزنة لديه، سواء بالحذف النهائي أو التمرير إلى أشخاص موثوقين، تتكفل جوجل بمخاطبتهم بالإنابة.


كما دشَّنت فيسبوك خدمة جديدة تدعى Legacy Contact، بحيث يمكن الولوج إلى إعدادات الأمان security settings وترك رسالة إلى شخص بعينه يُوصَى له برعاية بروفايل الفيسبوك بعد وفاة صاحبه، بحيث يسمح له بالتصرف فيه وإدارته، في حال عدم رغبة صاحبه في حذفه نهائياً من الإنترنت. وفي هذه الحالة، يسمح للورثة بإجراء عمليات محدودة على حسابات فيسبوك الموروثة، منها تغيير صورة البروفايل وصورة الخلفية وقبول صداقات جديدة وكتابة بوستات لأغراض معينة فقط مثل إحياء ذكرى المتوفي. وبهذا لا تمنح فيسبوك للوارثين كل خصائص الاستخدام، بحيث لا يستطيع الوارث الاطلاع على الرسائل الخاصة بالمُورِّث مع إمكانية أن يمنح مستخدم فيسبوك ورثته، مقدماً، الحق في تحميل نسخة أرشيفية من محتوى بروفايلاتهم.


أما مشروع الجنة Project Elysium الذي قامت بتطويره شركة استرالية تدعى Paranormal Games، فمن شأنه أن يمنح الأحياء خبرة ذاتية للتفاعل مع أحبائهم الذين انتقلوا إلى الحياة الأخروية. وفكرة هذا المشروع الأساسية تعتمد على إعادة بناء نموذج محاكاة ثلاثي الأبعاد مطابق لمن غادروا حياتنا إلى الأبد، وذلك باستخدام تقنية الواقع الفيرشوالي virtual reality، ومن ثم يمكن مشاهدة الموتى والتفاعل معهم باستخدام الأوكيولاس ريفت oculus rift (خوذة تُرتدَى على الرأس لتيسير التفاعل بتكنولوجيا الواقع الفيرشوالي عبر الرؤية والسمع ومستقبلاً عبر مزيد من الحواس مثل الشم والتذوق).


إذاً، نحن بصدد إعادة تعريف الموت ليس على اعتبار تلاشي وجود الإنسان فيزيقياً نتيجة توقف وظائف الجسد البيولوجية فحسب، وإنما كذلك يتحقق الموت في حال عدم إعادة "إحياء" وجود الموتى البيولوجيين داخل بيئة الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. بل، ربما اقتضت الحاجة إعادة تعريف الحياة ذاتها، بوصفها باتت حياة فيزشوالية (بالزاي وليس الراء) تتراوح بين شكلَي الوجود الفيزيقي والفيرشوالي. وهما الوجودان اللذان يمتدان كخطَّين متوازيين على مسار حياة الإنسان المعاصر، ثم ينقطع خط الوجود الفيزيقي ويستمر خط الوجود الفيرشوالي منفرداً إلى ما لانهاية بفضل الإنترنت والتكنولوجيات الحديثة.


وعليه، فإن المجتمع المدني بحاجة إلى إثارة نقاش جماعي يستهدف الارتقاء بالوعي العام بقضية الموت الديجيتالي وآليات إدارة الأصول الديجيتالية وطرق التصرف فيها وتأمين سبل مرورها للمستقبل، أولاً. وتهيئة التشريعات المحلية لاستيعاب هذا المفهوم الجديد وما يترتب عليه من تبعات وما ينتظم حوله من حقوق تتعلق سواء بالمجتمع أو بالأفراد ذوي الصلة المباشرة بمُنشِئ المحتوى، ثانياً. ثم، تمكين الاستفادة القصوى منه وتوفير سبل إتاحته والوصول إليه، ثالثاً. كما تقتضي الضرورة إنشاء مؤسسات تضطلع بمسئولية الحفاظ على الذاكرة الوطنية الإنترنتيّة. وذلك على غرار المسئولية التي وُضعت على عاتق المكتبات الوطنية والأرشيفات القومية، قديماً، أو تلك التي وُضعت على عاتق مراكز توثيق التراث الوطني، حديثاً. وقد تنشأ في المستقبل مؤسسات لرعاية الوَقْف الإنترنتيّ، أي الأصول الإنترنتيّة التي تُدِرّ عائداً مالياً بعدما يُغيّب الموت أصحابها.


إن إهمال المحتوى الشخصي الذي ذهب عنه مُنشئه، إنما هو تبديد حقيقي لثروات معرفية واقتصادية، يمكن أن تستمر في العطاء إلى مالا نهاية، وإهدار لطاقات عظيمة بُذلت في سبيل إنتاجه وجمعه وتنظيمه وإتاحته. ووفق هذا المعنى، فإن انقطاع سبل الوصول إلى محتوى المدونات والمواقع الشخصية والنصوص المختزنة على الأجهزة الكمبيوترية والحواشي المسجلة على هوامش الكتب الإلكترونية، مثلاً، بمثابة إغلاق اضطراري لمتحف في وجه مرتاديه إثر ضياع مقتنياته أو التسبب في إحراق مكتبة عُلِّقت على جدرانها عبارة "لطفاً عزيزي القارئ .. مسموح هنا بالتدخين".


تُرى، كيف كان الحال لو لم يترك لنا أسلافنا، قبل عشرات الآلاف من السنين، رسومهم البدائية على جدران الكهوف، أو لو لم تحفظها لنا عوامل الطبيعة، بوصفها مصدراً مهماً لمعرفتنا المعاصرة عن هويتنا الإنسانية ولإعادة اكتشاف طبيعة وجودنا التاريخي. والحال، إن الذاكرة الإنترنتيّة بمثابة تَمَثُّلٌ آخر من تَمَثُّلات الذاكرة الكهوفية، ومن قبلها الذاكرتين الورقية والأنالوجية analogue. بيد أنها تتجسد عبر وسيط معاصر، يستلهم معطيات اللحظة الحضارية الراهنة ويتجاوز معطيات الماضي. والمدهش في أمر ذاكرة الإنترنت، أنه لم يعد بمقدور المُنتصِر أن يكتب التاريخ وحده، بعدما صار الحاضر والمستقبل موصول بكبسات أصابع المهزومين على شاشات الإنترنت، والذي قيل عنه "لا يَنسَى Internet doesn’t forget". وسيراً على خُطى إنسان الكهف وإنسان الورق، يسعى إنسان الإنترنت إلى تمرير ذاكرته إلى المستقبل. أمَا وإن زَلَّت خُطاه وزالت عنه أسباب السعيّ، فقد انمَحَت ذاكرة عالمه وانقَشَعَت ذكرى وجوده إلى الأبد، وصار وصرنا معه ضرباً من العَدَم على صفحة المستقبل.


مصدر الصورة: منقولة من الإنترنت/مشاع

#الموتالديجيتالي #الموتالرقمي #digitaldeath #الموت #الميراثالرقمي #الإنترنت #المحتوىالرقمي #مابعدالبشرية #PostHumanism #الحياةالإنترنتية #الذكاءالاصطناعي #humanoid #هيومندية #هيوماندية #الهولوجرام #الوجودالفيرشوالي #الوجودالفيزشوالي #الهجرةإلىالإنترنت #السوشيالميديا #تطبيقاتالسوشيالميديا #مواقعالسوشيالميديا #المحتوىالديجيتالي #التطبيقاتالهاتفية #مشاهيرالإنترنت #نجومالسوشيالميديا #هواتفذكية #كمبيوتراتتابلتية #tabletcomputer #ميتشيوكاكو #جولفيرن #JulesVerne #hg #الوقفالإنترنت #الوقف #الميراث

أحدث المقالات المنشورة
المقالات المنشورة
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page