top of page

Taxi or Uber: A Different Way to Identify our Future selves إنتَ تاكسِي ولَّا أُوبر؟: المستقبل خار


معروفٌ أن عقلنا الاجتماعي يقدِّس الشجن ويقدِّم المَرَاثِي على المَسَرَّات والتَبْكِيت على التَنْكِيت والبُكائيّات على الابتهاجيّات، لو جاز التعبير. وعند ناصية الألم، يقبع ميكانيزم دفاعي جمعيّ أو فعل ارتدادي ذاتي، ينبعِث سريعاً ليحِيك من سياق التَبَاكِي والتَرَاثِي والتَشَاجُن، غُيُوث المِزاح ومفردات الهَزْل ومُنَمنَمات السخرية. وتلك مفارقة أخرى، أعني ما يمكن تسميته بـ استراتيجية قهر المأساة بالسخرية، منبعها جيناتٌ سوسيو- ثقافيةٌ تطورَّت عبر التاريخ، ثم استقرت إلى الأبد في تكويناتنا الداخلية العميقة. والمدهش في الأمر، إن قواعد السخرية عندنا مَطَّاطَة، فهي لا تتمرد على سُقُوف التعبير عن الذات ولا تتجاوز خطوط الارتداع الكلاميّة فحسب، بل كذلك تقفز إلى مستوى السخرية من الذات "ذاتها".


بالتطابق مع هذا العقل الاجتماعي البكَّاء ـ الساخر في آن، تدور سردية "المَعَلِّم رِيْشَة" من فيلم "مولد يا دنيا"، والذي جسَّد شخصيته الراحل عبدالمنعم مدبولي واشتهر من خلاله بأغنية "زمان وكان يا ما كان"، والتي تختزل مأساة سائس حَنْطُور (سائق عربة خيل). وفي هذا المشهد الغنائي التراجيدي الذي يدور داخل عَرْبَخَانَة المَعَلِّم رِيْشَة (محل عربات الخيل)، والتي صارت خاوية على عروشها إلا من رفيق عمره "شَنْكَل" الحصان، ينعِي "رِيْشَة" مهنته العريقة بعدما دَقَّ التاكسي المسمار الأخير في نعشها. إذ، يصفُ تَهَشِّي قدرته التنافسية في مواجهة قساوة متغيرات العصر وعنفها، ويعدِّد زوايا عملية إعادة انتشاره القَسريّ على هامش المجتمع، ويتغنَّى مهزوماً بحاله المتعثِّر بعد سعةٍ مادية وتَنَفُّذ اجتماعي، ويتعجَّب من حال انوجاده في عالم "غريب" لم يعد يشعر فيه بالانتماء أو الأمان.


النقطة، هنا، بينما يَعبُر بنا رِيْشَة بين زمنين لا يشبه أحدهما الآخر، يُعبِّر عن صدمته الشديدة لقاء واقع اجتماعي ـ اقتصادي جديد. واقعٌ أفرزته عملياتٍ متدَّرجةٍ ومعقّدةٍ من الإزاحة وإعادة التمركز. فقد انتصر ذلك الواقع لتكنولوجيا السيارات الحديثة على تكنولوجيا الحَنْطُور القديمة. وحقيقة الأمر، إنه انتصارٌ للمستقبل على الماضي ولنسقٍ كليٍّ جديدٍ على آخر قديمٍ ولقيمٍ وافدةٍ على أخرى راسخة. أما القيم الوافدة، فمصدرها الزمن الحديث بوصفه تجسيداً رمزياً للتحولات الديناميكية المُزَامِنة لاستدعاء منتوج التكنولوجيا الحديثة إلى الواقع المحلي. وأما القيم الراسخة، فمصدرها الزمن القديم بوصفه تجسيداً رمزياً للموروث، والذي هو تَجَسُّدٌ آخر من تَجَسُدَات الثبات والجمود والرتابة.


لعلِّي تعمَّدت العزف على وتر السينما، بدعوى توفير صورةٍ أكثر وضوحاً عن الأثر غير المباشر للتحول التكنولوجي، والمترتِّب على دخول تكنولوجيا جديدة على خط تكنولوجيا أخرى قديمة. إذ عادةً ما ينتهي تقاطع كلا التكنولوجيتين إلى تَنحِيَّة الثانية وتثبِّت الأولى، وهو الأمر الذي طالما تكرَّر عبر التاريخين القديم والحديث. والنقطة، هنا، في المسافة الفاصلة بين عمليتي التَنحِيَة والتثبيت، لا تنبثق متغيراتٍ اقتصاديةٍ فحسب (أي الأثر المباشر كتَرَدِّي عائدات صناعة النقل بالحَنْطُور، مثلاً)، وإنما كذلك تحولات اجتماعية وغير اجتماعية عديدة (أي الأثر غير المباشر كانتشار مشاعر الاغتراب وتراجع التراتبية الاجتماعية لبعض فئات المجتمع، مثلاً). والناتج الإجمالي، هنا، أعراض مزلزلة للبنيَّة الكليَّة للمجتمع بحيث لا تزول مطلقاً إلا بتواتر الأجيال وتعاقب الأزمنة.


على كل حال، إن حكاية رِيْشَة أو "مؤسسة الحَنْطُور" العتيقة في مواجهة "مؤسسة التاكسي"، لابد وأن تحيلنا إلى المواجهة الحالية بين وأُوبر Uber، من طرف، و"مؤسسة التاكسي" التي صارت هي الأخرى عتيقة، من طرف آخر. إن أُوبر عبارة عن تطبيق ذكي يعمل عبر الهواتف الذكية كعشرات التطبيقات الأخرى التي نستخدمها يومياً. ويعمل أُوبر بمبدأ النقل التشاركي، إذ أطلقته إحدى الشركات الأمريكية في مارس من العام 2009 بغرض استحداث شبكة مواصلات عالمية. وبهذا يستطيع مستخدمو أُوبر رفع طلباتهم عبر هواتفهم الذكية لتصل مباشرة إلى سائقي أُوبر، وهم في هذه الحالة ليسوا من محترفي مهنة السِياقة، وإنما أفراد مُعتمَدون من قبل شركة أُوبر لاستخدام سياراتهم الخاصة للتوصيل مقابل أجر. وحسب بعض تقديرات العام 2014، احتلت شركة أُوبر المرتبة 48 بين أكثر الشركات نفوذاً في الولايات المتحدة. وفي نهاية العام 2015، قدرت قيمة أُوبر بنحو 62.5 مليار دولار أمريكي. وفي إبريل من العام 2016 امتدت شبكة أُوبر لتصل إلى نحو 60 دولة و404 مدينة حول العالم. ما دعى شركات أخرى إلى إصدار تطبيقات مثيلة تحاكي أُوبر لاقتناص نصيبٍ معلومٍ من منحة النقل التشاركي في أرض الإنترنت. وبالتزامن مع كل ذلك، انتشرت في العام 2014 احتجاجات نظَّمَها سائقوا التاكسي في مدن عدّة حول العالم من بينها لندن وبرلين وباريس ومدريد (منقول عن ويكيبيديا). ولم تكن احتجاجات القاهرة والإسكندرية التي نظمها سائقوا التاكسي العام الجاري (2016) مختلفة عن غيرها ضمنياً، أي من حيث استشعار "وهْم" الخطر الذي يشكله أُوبر على صناعة النقل بالتاكسي، بقدر ما كانت متأخرة عنها. وفي تأخر رد الفعل الاحتجاجيّ إشارة عامة إلى ثِقل حركة التحول، محلياً، باتجاه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مقارنةً بالمجتمع العالمي.


إن ما يُضعِف من مقاومة "مؤسسة التاكسي" وقدرتها التنافسية، عديد الميزات التي يستمدها أُوبر من بيئة الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. منها، على سبيل المثال، أنه أثناء الانتظار وباستخدام خرائط الإنترنت، يستطيع الراكب تتبع مسار تقدُّم سيارة أُوبر وصولاً إليه، مما يحترم قيمة الوقت. ونموذج أُوبر يتماهي مع التوجهات المعاصرة بشأن الحفاظ على البيئة، لاسيما عبر تشجيع الأفراد على التشارك في سياراتهم الخاصة للانتقال إلى العمل ذهاباً وإياباً، وبالتالي تنخفض كثافة المركبات في شوارع المدينة وتهبط معدلات التلوث. كما أنه بمثابة مِنصَّة تشاركية أونلاينية online، تجمع ردود أفعال المستخدمين وآراءهم، من أجل تحسين الخدمة وإعادة توجيه مسارات الأداء. وعملية تقييم الخدمة، هذه، متبادلة بحيث تشمل تقييم السائقين من قِبل الركاب وتقييم الركاب من قِبل السائقين، وبذلك تطرح الخدمة إمكانية اختيار الراكب للسائق والعكس صحيح، حسب السُمعة ودرجة رضاء كل طرف عن الآخر. وفي حالات الذروة ترفع أُوبر تعرفة النقل، مما يحفِّز عدد أكبر من سائقي أُوبر على تلبية طلبات الركاب، وبالتالي يقل زمن الانتظار. كذلك، يتمتع أُوبر بشفافية كبيرة في طرق التسعير واحتساب تكلفة النقل. بيد أن المهم هنا، أن مرونة بيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات سوف تسمح باستمرارية تمرير ميزات غير محدودة، كماً وكيفاً، في المستقبل.


إذاً، شبكة مواصلات أُوبر بمثابة بديل عصري يستعير تكنولوجيات اللحظة الراهنة. كما أن الاحتجاج تأجَّج أخيراً بالتزامن مع ارتفاع شعبية أُوبر، وعلاقة ذلك بقَلقَلَة عرش التاكسي أو التهديد بإزاحة مؤسسة المواصلات الكلاسيكية. والملفِت، إن المجال العام مفتوح حتى أقصاه لاستمرار نشوء احتجاجات واحتدام جدل ممتد بشأن قضايا خلافية فيما بين "أُوبر"، من جانب، وأصحاب المصلحة من حكومات وسائقي تاكسي ونقابات مهنية ومنظمات مدنية، من جانب آخر. بيد أن احتجاجات أُوبر، تحديداً، والاحتجاجات المثيلة التي تتحدى فعل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، عموماً، سوف تضمحل جميعاً في العالم المتقدم بوتيرةٍ أسرع من العالم النامي، نتيجة تفوق قدرات أفراده على التكيُّف مع التحولات الديجيتالية Digital Transformations. والمقصود بها تلك التغيرات الدراماتيكية المصاحبة لتغلغل الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وعمليات الكَمْتَرَة (اصطلاح مقترح للدلالة على عمليات التحول إلى بيئة الكمبيوتر)، خلال أشياء المجتمع وظواهره ومنظومات الإنتاج وأنماط الحياة والقيم المُتَبَنَّاة والقوانين العامة التي تنظّم واقعنا وتشكِّل تصوراتنا. وهذه، قضية فرعيّة لها جوانب عديدة متشعبة ومعقّدة قد لا يتسع المجال لمناقشتها حالياً.


بالعودة إلى المسألة الأساسية من منظورٍ أكثر اتساعاً وتجريداً، إنني لا أهدف تسليط الضوء على الصدام الجاري بين جماعة التاكسي وأُوبر، بقدر اقتطاع هذا المشهد، المحدود في تفاصيله، من أجل استيضاح الحالة الكليَّة لعالمنا المعاصر ـ ما بعد الصناعي. وكذلك، للإشارة إلى نشوء سلسلة تالية من الصراع والمُمَاحَكة في ميادين أخرى غير ميدان أُوبر، وذلك فيما بين أطرافٍ متداخلة بحيث يحاكي بعضها ما يمكن تسميته بـ "الحالة أُوبر"، أي المستقبل، بينما سيَتمثَّل بعضها الآخر "الحالة تاكسي"، أي الماضي. وقوانين التاريخ، عَرَّافة بني الإنسان التي لا تكذب، تُنبِئ بأن هكذا صدام لابد وأن ينتهي بانتصار جماعاتٍ اختارت الهجرة إلى عالم المستقبل على جماعاتٍ آثرت المكوث تحت وَثَبَات التقدم التكنولوجي.


إن النظر عميقاً في إشكالية أُوبر، يكشف الحُجُب عن إشكالية أخرى أكبر وصراع آخر متعالي فيما بين باراديمين أو نسقين فكريين، كلاهما متفاوت من حيث الطبيعة والتكوينات والأنساق والوعي بالوجود والنظرة إلى الذات والآخر. وإن أُوبر ما هو إلا تجلٍ بسيطٍ من تجليات ملحمة التحول العظيم، أي تحول المجتمع العالمي من مجتمع صناعي إلى مجتمع معرفة. إن أُوبر الحالي، وكل أُوبر مضى سَلَفاً أو سيأتي خَلَفاً، ما هو إلا مخاض لعملية مستمرة ذات إيقاع منتظِم، تأخذ على عاتقها تفكيك أنماط الإنتاج الصناعية وهياكلها ومؤسساتها، ومن ثم إعادة تركيبها وفق معطيات مجتمع المعرفة المكتسبَة وطبيعته الداخلية وشروطه الحاكِمة. ووفقاً لذلك، إن ما يحدث الآن في زمن أُوبر، يحاكي ما حدث قديماً في زمن تفكيك مجتمع قائم على الإنتاج الزراعي كان قد استمر منذ بداية التاريخ وحتى نهاية العصور الوسطى، ومن ثم إعادة تركيبة في صورة أخرى تَنتَصِب على قواعد التصنيع والآلة والعلم والاختراع، وهو الزمن ذاته الذي ينتمي إليه "رِيْشَة". وما أودّ التأكيد عليه ثانيةً، إن عمليات التفكيك والتركيب لا تحدث على مستوى مؤسسات الإنتاج والتشكيلات الاقتصادية فحسب، وإنما كذلك يمتدّ أثرها إلى مجالات أخرى غير اقتصادية، وذلك حسب مبدأ تداعي الدومينو Domino Effect.


بعبارة أخرى ومن منظور تحقِيبي، إن فعل التداعي المترتب على عملية التفكيك والتركيب، عادةً ما يشغل اللحظة الزمنية الممتدَّة التي يحدث خلالها التحول من نموذجٍ كُلّيّ كلاسيكيٍ راسخٍ إلى آخر عصريٍّ ووافدٍ. فمن بؤرة التحول، هذه، تتدفق انشقاقاتٍ واهتزازاتٍ واضطراباتٍ عميقةٍ مروراً عبر مستويات مختلفة كامنة داخل البنيَّة الكليَّة للمجتمع محل الاختبار، منها ما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي وعقلاني وثقافي وهوياتي وإيديولوجي ... إلخ. وإن مواقد الاضطراب عادةً ما تبلغ ذروة التأجُّج خلال هذه اللحظة الزمنية الوسيطة التي تقع على الخط الحاد الذي يفصل بين كلا النموذجين الكُلّيّين، ثم تعود لتخفُت وبالأخير تنطفئ.


في هذه الحالة، عادةً ما يقع أمران رئيسيان، أولهما ما يمكن تسميته بـ "الإحلال" حيث تسقط بعض التشكيلات والبنيات والمؤسسات ذات الصلة بالنموذج الكلي الكلاسيكي، وتَنمَحي مطلقاً من المشهد العام، ومن ثم يحلّ محلها بديل جديد؛ كما في مؤسسة الفونوغراف التي حلّ محلها الكاسيت، والأفلام الفوتوغرافية الضوئية التي حلّت محلها الكاميرات الديجيتالية، هذا على سبيل المثال. ثانياً ما يمكن تسميته بـ "الإزاحة"، إذ يستمر بعضها الآخر، ولكن ضمن شروط جديدة تُطابِق طبيعة اللحظة وتنتهي إلى إعادة انتشار أو إزاحات قَسريَّة من المركز إلى الهامش؛ فقد أزاح التلغراف البريد، وأزاح الهاتف التلغراف، و أزاح الراديو الصحف، وأزاح التلفاز الراديو، وأخيراً أزاح الإنترنت كل من الهاتف والصحف والراديو والتلفاز، غير أنهم جميعاً لم يختفوا تماما من المشهد. إذا، ثمة سلسلة متصلة من الإزاحات والإحلالات، حيث تنسحب، إما كلياً أو جزئياً، أشياء النموذج الكلِّي القديم وظواهره من المشهد العام، تاركةً المساحة التي تشغلها لصالح البدائل العصريّة، والتي هي متوافقة مع الطبيعة التكنولوجية التي توفِّرها اللحظة التاريخية التي صادفت عملية الإزاحة والإحلال. وفي خضم كل ذلك تصعد إلى قمة الهرم تشكيلات وبنيات ومؤسسات جديدة، أي غير متطابقة مع العقل الاجتماعي الكلاسيكي والمفاهيم الراسخة والوعي السائد والمعايير المصطلح عليها والأنساق التي تعمل وفق مبدأ كسب حق البقاء بالأقدميَّة.


إمعاناً في الإيضاح، لو اعتبرنا ما يجري بين مؤسستي التاكسي وأُوبر عبارة عن معركة صغيرة لها اشتباكاتها العلائقية المُرتَدَّة على الواقع المعاصر، فإنها تمثِّل انعكاساً لمعركة أكبر لها دلالاتها وارتداداتها المستقبلية الأكثر عمقاً. وخلال ما اعتبرناه مجازاً بمثابة معركة، يشغّل الاقتصاد القائم على المعرفة، مجازاً أيضاً، كرسيّ القيادة المركزية. وبعبارة أخرى، إن متغيرات الإنتاج هي المحرِّك الأساسي لمختلف تروس ماكينة التغيير الشامل في النموذج الاجتماعي الكلِّي أو النسق الفكري العام. أما جوهر هذا الاقتصاد المعاصر فهو المعرفة والابتكار والإبداع في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وليس الزراعة أو الصناعة، حسب ما استقرَّ خطئاً في العقيدة التنمويَّة لدى أغلب الدول النامية وما وقَرَ في وعيّ عموم الناس. وجدير بالقول، إن طموحات هذا الاقتصاد المعرفي الجديد تتجاوز النزعة التوسعية للعولمة، والمرتبطة أصلاً بالاقتصاد الصناعي، حيث ممارسات الهيمنة على أسواق العالم وفرض التبعية على اقتصادات الدول النامية، تارةً عبر نشر النفوذ الثقافي في البيئة المحلية، وتارةً أخرى عن طريق الضغط على الحكومات ومراكز صناعة القرار وافتعال الأزمات، وتارةً ثالثة بواسطة إنشاء أندية سياسية واقتصادية للدول الصناعية الكبرى بغرض غزو الأسواق العالمية واقتسام كعك شعوبها وخبزهم. وذلك نتيجة فعل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من حيث إعادة تشكيل الجماعات المحليّة بوصفها جماعة كوزموبوليتية "شبكيّة" متلاحمة (لنتذكر حركة احتلُّوا وول ستريت العالمية Occupy Wall Street، مثلاً)، وكذلك نتيجة العلاقة العضوية بين كل من اقتصاد المعرفة، من جانب، والإنترنت كسوق بديل وقوانين حاكمة جديدة وواقع آخر للعرض والطلب، من جانب آخر.


إن العالم يمرّ الآن فوق جسورٍ زمنيّة تفصل فيما بين كلٍ من مجتمع المعرفة، المترقِّب عند الطرف الأماميّ، ومجتمع التصنيع، المتخلِّف عند الطرف الوَرَائيّ. ولما كانت هذه الجسور ذات اتجاهٍ أحاديٍ وحركةٍ ملتهبةٍ وسيرٍ مزدحِّم، فإن خيارات العالقين فوقها تصبح محدودة للغاية. وفي هذه الحالة، إن التوقف عن التقدُّم إلى الأمام يعني موتاً محقَّقاً بالدَّهس تحت أقدام المارَّة، بينما يعتبر الرجوع إلى الخلف بمثابة فرصة انتحارٍ مضمونة. وبعبارة أخرى، إن مقاومة أشياء مجتمع المعرفة وظواهره، لا تعني الانفصام عن الواقع المعاصر فحسب، وإنما كذلك الانسحاب من المستقبل والارتداد إلى الماضي. والحق، إن انتصار تكنولوجيا جديدة على أخرى قديمة لا يعتبر مأساة، بالمعنى الميلودرامي المشحون أصلاً بالصراع التقليدي بين الخير والشر، وإنما هو انتصارٌ ضروريٌّ لحركيّة التاريخ على نزعاتٍ إنسانيةٍ تجسِّد أنموذج التقهقر باتجاه الماضي وتياراتٍ اجتماعيةٍ تتشبَّث بوضعيَّة الثبات في الزمن. علينا أن نعمل جديّاً على تَنحِيّة مشاعر الخوف من وهم الغزو التكنولوجي وممارسات العداء للتحولات الديجيتالية، وعلى تكييف تفاصيل اللحظة الراهنة وعناصرها وملامحها لاستيعاب مؤسسات مجتمع المعرفة واقتصاده الجديد.


إن "الحالة" أُوبر و"الحالة" تاكسي، يمثل كل منهما كينونة مستقلة عن الأخرى وخياراً مضاداً للآخر. بل، إن كلاً منهما بمثابة أسلوبٍ مختلفٍ لتعريف الذات وتعيين الوجود. مما يستدعي مُفَاضَلةً صارمةً كصرامة العواقب المترتبة على خُسران الحُكم وسوء الاختيار. ففي لحظة تاريخية لا تعاود الإتيان، امتلك المَعَلِّم رِيْشَة خيار التخلي عن الحَنْطُور والعَرْبَخَانَة وشَنْكَل، من أجل تاكسي "عصري". بيد أنه لم يفعل، فانتهي إلى ما انتهى إليه، فبكينا معه بينما كان الأولى بنا أن نبكي عليه.


عليك أن تقرِّر الآن إما أن تكون "أُوبر" أو أن تظل "تاكسي". وليكن الانحياز إلى فَيلَق "الأوابر" في معركة المستقبل بمثابة خيار حتميّ. وإلا، فإننا سوف نستمر إلى مالا نهاية في إعادة إنتاج مأساة كمأساة سائس الحَنْطُور. والأكثر مأساةً على الإطلاق هو أن تنقطع بنا سبل الارتداد إلى "الحالة" تاكسي، وعندئذ ينقلب الواقع من حولنا إلى ما يشبه عَرْبَخَانَة المَعَلِّم رِيْشَة.


مصدر الصورة: منقولة من الإنترنت/مشاع


أحدث المقالات المنشورة
المقالات المنشورة
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page