Thumbs up to Marc Zuckerberg (2-2): Ford’s Cuban Cigar Versus the Grey T-shirt الجنة لـ "مارك
لا سيجار كوبي، لا حارس خاص، لا سيارات فارهة، لا شقراوات فاتنات، لا أندية روليت، ولا أيٍ من تلك الصور الذهنية المغالية، والتي هي سائدة لدى رأسماليي الحقبة الصناعية، قد نجدها عند رواد الرأسمالية التكنومعلوماتية. وإن مارك زوكربيرج، بوصفه أحد أبرز رواد تلك الرأسمالية الجديدة، عادة ما يظهر مرتدياً تيشيرته الرمادي وبنطاله الجينز، وكأن خزانة ملابسه قد خَلَت إلا منهما. إنه لا يتعمد المبالغة في إبداء مظاهر البذخ، كعادة الرأسماليين الصناعيين، حتى عند ظهوره في المناسبات العامة وفي حضور الوفود الدوليّة والرئيس الأمريكي ذاته.
ورد في مذكرات هنري فورد، الرأسمالي الصناعي الشهير في مطلع القرن العشرين وصاحب شركة سيارات فورد الأمريكيّة، أن موظفوه كانوا قد أشاروا عليه بإمكانية زيادة مبيعاتهم من السيارات عبر إنتاج موديلات وألوان مختلفة، بحيث ترضي طلبات الزبائن (بدلاً من الاستمرار في سياسة الموديل الواحد ذو اللون الأسود). وكان السيد فورد يرفض التغيير، ويصر على أن تعديل خطط إنتاج سياراته من شأنه إفساد الأمر برمته وليس إصلاحه.
لذا، يقول فورد "أعلنتُ في صبيحة أحد أيام العام 1909، فجأة، أننا سوف ننتج موديل واحد فقط من السيارات وهو موديل تي Model T بشاسيه موحّد لجميع السيارات". ثم أردف قائلاً لموظفيه (ربما بلهجة حازمة وساخرة في الوقت ذاته) قائلاً "أي زبون من حقه الحصول على سيارته مدهونة باللون الذي يرغب فيه، طالما كان هذا اللون هو الأسود"، ونص عبارته المتواترة في الإنجليزية “Any customer can have a car painted any colour that he wants so long as it is black”([i]).
والنقطة هنا، عبر سياسات مثيلة لتلك التي انتهجها السيد فورد والتي تعكسها سردية اللون الأسود، كانت الرأسمالية الصناعية في العادة تُعيِّن تصوراتها الذاتية ورؤاها بشأن الآخر. كانت متعجرِّفة ومتسلطة ولا تعبأ إلا لرغباتها الذاتية في مُراكَمَة الأرباح والهيمنة على السوق. بل، والهيمنة على الزبون ذاته، لاسيما عبر إعادة تغيير عاداته الاستهلاكية لخدمة المصالح الاقتصادية واستحداث آليات جديدة لتصريف منتجات الآلة الصناعية المتكاثرة على مدار الساعة.
إذ، ترى أنها متعالية إلى الحد الذي يمنحها الحق في إقرار سياسات منفردة بشأن السوق، بل والوجود برمته. أي من دون الحاجة إلى استجداء مشاركة المستهلك النهائي، من خلال مراعاة احتياجاته الفعليّة أو مراعاة عوامل أخرى متداخلة مثل استنفاذ الموارد الطبيعية والاحتباس الحراري وارتفاع معدلات الفقر والعدالة في توزيع الفرص.
وعلى كلٍ، رحل السيد فورد منذ زمن بعيد، وانتهت النظرية "الفُوْرْدِيّة Fordism" إلى الأبد، وبدأ يتلاشى ذلك البارادايم الذي ساد في العصر الصناعي. فقد استطاع هنري فورد ورواد جيله من الرأسماليين الصناعيين البارزين، إعادة هيكلة العالم على النحو الذي يستوعب أحلامهم، بل ويجبِر تشكيلاته المختلفة على الانصياع لهم والتحالف معهم، من أجل تحقيق مجموعة من الأطماع الربحيّة المُفرِطة والرؤى الاقتصاديّة المُجاوِزة. لكن، لا شك وأن هذا العصر إلى زوال. والحال، بتنا على أعتاب اقتصاد تكنومعلوماتي جديد وبارادايم ما بعد صناعي وعالم لا يشبه عالم السيد فورد.
لا أرغب في القفز مباشرة إلى النتائج، ولكن يرجع السبب وراء تلك الفروقات الجوهرية لدى مارك زوكربيرج وجيله ممن يسمون بـ المليارديرات الجدد، بالمقارنة مع هنري فورد وجيله من الرأسماليين الصناعيين، إلى تفاوت الظروف التي صادفت تشكُّل التجارب الاقتصادية لدى الجيلين. ومنها مثلاً، أن الاقتصاديين التكنومعلوماتيين قد بدأوا رحلاتهم في دنيا رأس المال في مرحلة مبكرة جداً من عمرهم. أي في وقتٍ كانت أعوادهم خضراء وأحلامهم خضراء ورؤاهم بشأن العالم خضراء، ولم تتلون بعد بألوان الصراعات الاقتصادية التي زامنت انبعاث الثورة الصناعية، والتي لا تنتهي ما دام الوجود ومادام الإنسان.
إذ، إن الصراع من أجل المال لا ينتفي كذلك وجوده في الاقتصاد القائم على المعرفة. هذا، وإن كان يتخذ أشكالاً مختلفة عنها في الاقتصاد الصناعي، ربما تكون أقل حدّةً وأدنى عنفاً وعدوانية. والقصد، انطلقت أغلب الكيانات التكنومعلوماتية العملاقة من مشروعات متواضعة، أطلقَ شرارتها الأولى شباب يافعون من داخل مختبراتهم الجامعية أو غرف مبيتهم أو كراجات بيوتهم الخلفية. ولم يكن أحد يتوقع آنذاك أن تتحول تلك البداية المتواضعة إلى مشروعات عملاقة، بل إلى اقتصاد عالمي قائم بذاته.
كما أن لحظة انطلاق هذه الثورة التكنولوجية الجديدة ليست كمثل لحظة انطلاق الثورة الصناعية. فالأخيرة انطلقت في لحظة إنسانية كان العالم لا يزال يشتبك مع بقايا الإرث الاجتماعي القروسطي ومظاهر الأرستقراطية والنبالة. أما اللحظة الإنسانية لانطلاق الثورة التكنولوجية المعاصرة، فقد وافقت إلى حد كبير تخلص الجماعة العالمية من ذلك الإرث وتلك المظاهر. كما وافقت تطور أنماط الاتصال الإنساني عبر المكان والزمان، ونشوء النزعة الكوزموبوليتية التي ترتكز على وحدة الإنسان والعالم، وارتفاع سقف الحريات والحقوق، وترسيخ مفاهيم وجوديّة جديدة انبثقت من الكشف عن تواضع عالم الإنسان أمام عوالم الفضاء الخارجي. كل هذا وجد صداه في دنيا رواد الأعمال التكنومعلوماتيين الجدد والاقتصاد القائم على المعرفة.
كذلك فإن الطبيعة التآزريّة في اقتصاد الإنترنت، أي فيما يسمى بالاقتصاد التشاركي sharing economy من حيث التكامل المشترك والتعاون المتناغم بين شركات الدوت كوم والزبون النهائي، كانت قد فرضت التخلي عن النمط الاستعلائي السائد لدى المؤسسة الرأسمالية. ففيه، الكل أنداد والكل يعمل سواء بسواء والكل يتبادل المنفعة، وليس على طريقة "دعه يعمل، دعه يمرّ"، والتي تعكسها تلك المقولة الشهيرة التي سادت لحظة اندثار النظام الإقطاعي ونهوض الرأسمالية في أوروبا. وبينما تدور أموال الكل دورتها، فإنها تعود لتتراكم في جيب هذا الذي كنا قد تركناه "يمرّ". لهذا، فقد نشأت على مدار العصر الصناعي حراكات إصلاحية وحركات مناهضة للرأسمالية، ولعل من أبرزهم النظرية الاشتراكية قديماً وحركة "احتلّوا وول ستريت" حديثاً.
في قمة رواد الأعمال 2016 والتي عقدت في الولايات المتحدة (نهاية شهر يونيو الجاري)، أشار زوكربيرج إلى تلك التساؤلات الاستنكاريه التي يثيرها البعض بشأن مشروعاته في مجال نشر الاتصال المجاني بالإنترنت في العالم (والتي أُشير إليها في المقال السابق). وذلك على الرغم من تكلفتها المرتفعة جداً، وكذلك عدم إمكانية جني أرباح ماليّة منها لمدة زمنية طويلة جداً. أما وجهة نظر مارك فترتكز على أنه يتعيّن على رواد الأعمال أن يهتموا بالتغيير الذي يحدثونه في العالم، وليس فقط ببناء شركاتهم وكياناتهم الاقتصادية. فقد أضاف قائلاً "أؤمن بأنه في حال كنت تفعل ما هو جيد وتساعد الآخرين، فلاشك وأن ما تفعله سوف يعود عليك بالإيجاب". كذلك أشار إلى أنه لا يزال هناك أكثر من أربعة مليارات نسمة، من بين سكان العالم السبعة مليارات، غير متصلين بالإنترنت. ومن ثم، فعدم انتشار الإنترنت بين باقي سكان العالم يقلل من فرص رواد الأعمال في تحصيل النجاح في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات([ii]).
لعل ما أشار إليه مارك، يعني ببساطة التخلي عن التعسف في ليّ ذراع التاريخ والجماعة الإنسانية من أجل تحفيز عملية تضخيم رأس المال، وبغض النظر عن الآثار المترتبة على عدم سلامة ترتيب الأولويات، أي بواسطة عدم تقديم الأولويات الإنسانيّة على الماديّة. وهو مبدأ غير راسخ في النظرية الرأسمالية الكلاسيكية وممارسات رواد الأعمال الصناعيين، مما استتبع ظهور إشكاليات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية عديدة حول العالم.
ومنذ اللحظة الأولى للثورة الصناعية، شكّل انتفاء هذا المبدأ دافعاً أساسياً وراء تنظيم الاحتجاجات العمالية والصراعات بين الرأسماليين والنقابات العماليّة، والدائرة رحاها في المجتمعات الصناعية حتى اللحظة الراهنة. لكن، في المقابل أصبحنا نرى كيانات تكنومعلوماتية، مثل ميكروسوفت، بها بيئة عمل غير اعتياديّة بصالات ألعاب رياضية يستطيع موظفوها استخدامها أثناء أوقات العمل، وأماكن مخصصة للاستجمام، فضلاً عن ساعات الدوام المرنة وميزات أخرى تراعي العوامل الاجتماعية والإنسانية.
لكن، هذا لا يعني التخلي مطلقاً عن مبدأ تراكم رأس المال ضمن الاقتصاد التكنومعلوماتي، بينما يعني الوصول إليه من زاوية مختلفة عن طريق المبادرة بدعم الجماعة العالمية بأسرها (وليس المحليّة فقط) وتقديم أولوياتهم واحتياجاتهم الفعلية في الواقع. وذلك بوصفهم مكون أساسي من مكونات هذا الاقتصاد ذو الطبيعة التشاركيّة. مما يعد أحد أبرز التحولات المركزية في طبيعة الرأسمالية الجديدة، لاسيما بالمقارنة مع الرأسمالية "الفورديّة".
والحق، إن المصلحة الاقتصادية، وليس الإنسانيّة فحسب، تقتضي هذا التحول في توجهات الرأسمالية الجديدة. فدعم الجماعة الإنسانية على طريقة مشروعات فيسبوك لتوصيل العالم بالإنترنت المجاني لتوسيع القاعدة السوقيّة، يدخل في إطار التنازلات الاقتصادية الذكيّة. أي بمعنى أن الإقدام على منح مجتمع المستهلكين بسخاء، هو وسيلة جيدة لضمان عدم انقطاع رأس المال عن الدوران في خزائن الإنترنت.
ويبدو هذا المبدأ معقولاً نتيجة اتساقه مع طبيعة الاقتصاد الجديد، والذي عادة ما تبدأ دورة الأعمال فيه من طريق مبادرات رواد الأعمال التكنومعلوماتيين أنفسهم. أي المبادرات التي تسعى إلى تغيير الأنماط السائدة للحياة والعمل، وطرق رؤية الذات والوجود والآخر. ومن ثم، فإن اندفاع هذه المتغيرات الجديدة يستلزم، ببساطة، ابتكار منتجات جديدة تستطيع تلبية الاجتياجات الناشئة عن تلك المتغيرات. والمنتجات المبتكَرة، في هذه الحالة، تكون ذات طبيعة تكنومعلوماتيّة أو تكنواتصاليّة. وهنا، يستكمل رأس المال دورته داخل الاقتصاد القائم على المعرفة.
إن هذا ما فعله مارك زاكربرج، مثلاً، من حيث تغيير الطريقة التي كنا نُعيِّن خلالها طبيعة الخصوصية الشخصية ورؤيتنا لذواتنا وللآخرين في محيطنا الاجتماعي. وهو النموذج الأساسي الذي قامت عليه إمبراطورية فيسبوك. فمن منا كان يعتقد قبل سنوات قليلة فقط، أن أقرانه سوف يمتلكون الجرأة لنشر صورهم العائلية وأحياناً الخاصة جداً داخل شبكاتهم الاجتماعية في الإنترنت أو كسر التابوهات والتحرر من القيود المجتمعية والتمرد على الطبائع النمطيّة السائدة. ومن منا كان يعتقد أن بإمكانه متابعة رؤساء الدول وزعماء العالم السياسيين والروحيين ونجومه السينمائيين عبر بوستاتهم وتغريداتهم والاتصال معهم مباشرة. بل، من منا كان يعتقد أن بإمكانه مشاهدة فيديو يبث مباشرة من داخل قاعات الكونجرس الأمريكي، مثلاً، بكاميرا هاتفيّة عبر خدمة لايف التي دشنتها فيسبوك. والبقيّة تأتي.
الخلاصة، إن فيسبوك، باعتبارها مثالنا الحالي لتوضيح طبيعة الرأسمالية الجديدة، استطاعت تشكيل تلك المتغيرات وغيرها عن طريق إنتاج مبادرات تهدف إزاحة مفاهيم اجتماعية ثابتة وإحلال مفاهيم/تصورات/مُدرَكَات/تضمينات جديدة محلها. ومن ثم، استطاعت فيسبوك جني أرباح طائلة على خلفية تغيير العقل الاجتماعي العالمي بواسطة تلك الإزاحات والإحلالات. بل، إن هذه التغيرات لا تبدو، أصلاً، متناقضة مع الطبيعة الإنسانية والوجود الاجتماعي، كما هو حال بعض التغيرات التي خلقتها الثورة الصناعية.
وعلى كل حال، إن مشروع مارك زوكربيرج لنشر الإنترنت بين سكان العالم يعني، من منظور غير اقتصادي، تحسين طرق الوصول إلى المعرفة، ومن ثم تحسين نمط الحياة، وتطوير وسائل الإنتاج، وتعزيز طرق التفكير العقلاني، وخلق تصورات أكثر نضجاً عن الذات والوجود والآخر. إن زوكربيرج، في هذه الحالة، يسخِّر التكنولوجيات الجديدة لخدمة الإنسان ذاته وتحقيق أهداف الانوجاد في عالم متلاحم وأفضل للجميع، أولاً، ثم تحقيق أهدافه الاقتصادية وخدمة مبدأ تراكم رأس المال، تالياً.
أما الرأسمالية الصناعية، فعادة ما تسعى إلى تسخير التكنولوجيا لمضاعَفَة رأس المال، عبر تسليع كل شيء وتحفيز الاستهلاك حتى لو كان على حساب الإنسان نفسه أو الوجود ذاته. وكأنها لا تدرك بأنها تسعى إلى هدم المعبد ليس فوق رؤوس من بداخله فحسب، بل فوق رأسها كذلك.
سيحسن صنعاً، مارك زوكربيرج، لو استطاع الإبقاء على تيشيرته الرمادي وبنطاله الجينز.
[i] Henry Ford, My Life and Work: Top Biography, https://books.google.com/
[ii] https://www.youtube.com/watch?v=-XfF9EsvYI8